"نموذج غزة" كآخر عرض أميركي للجنوب: منطقة عازلة وإدارة دولية

بلغ الضغط ذروته. يكاد يصل إلى درجة الانفجار. لم يعد هناك مجال للمواربة، هذا ما تبلغه لبنان من جهات دولية عديدة. إنه اختيار ما بين القبول، أو التصعيد الكبير في حال الرفض. يدرس لبنان كل خياراته، يبحث عن موقف موحد يخرج به إلى العالم. هو لا يريد الحرب، ومستعد للتفاوض ويطالب بوقف الضربات والاعتداءات، ويفكر في حركة ديبلوماسية واسعة باتجاه القوى الدولية. لكن السؤال الأساسي يتعلق بما تريده إسرائيل، فهل هي فعلاً مع التفاوض والتوصل إلى حلّ، أم أنها تريد فرض استسلام كامل لرؤيتها؟ وفي السياق، تكشف المعلومات عن تلقي لبنان من الموفدين، ومن المبعوث توم باراك، ملامح العرض المقدم: إنه استنساخ تجربة غزة. وإذا لم يوافق عليها لبنان، فسيُترك لمصيره، وإسرائيل ستصعد في عملياتها وتواصل استهدافه.

 

إدارة دولية للجنوب.. كما غزة

الرؤية الإسرائيلية واضحة، وقد تبلغها لبنان كما الدول المحيطة، وهي نسخة مشابهة لما جرى في غزة، وهو ما يحظى بموافقة أميركية. وهذا المشروع، يبدأ بإنهاء حالة الحرب بين لبنان وإسرائيل، نزع سلاح حزب الله، وتفكيك كل البنية العسكرية العائدة إليه، وجعل منطقة جنوب لبنان خالية من السلاح، وخلق منطقة عازلة يسميها الأميركيون منطقة اقتصادية، تديرها جهات دولية، وربما لاحقاً تُطرح فكرة تشكيل لجنة دولية لإدارة الوضع في جنوب لبنان على غرار اللجنة  المقترحة لإدارة غزة، وتنضوي تحتها لجنة لبنانية تكنوقراطية لإدارة الوضع السياسي في الجنوب، مع ما يعنيه ذلك من أبعاد سياسية تتصل بمستقبل حزب الله ودوره. لكن هذه النقطة الأخيرة صعبة التحقق كما هو مطروح في غزة. فحزب الله منتخب بشكل واضح، وفي لبنان هناك دولة ومؤسسات هي التي يفترض بها أن تتولى إدارة شؤون الدولة، وهي المعنية أيضاً بحماية الحدود. وتحت هذا السقف يندرج موقف رئيس الجمهورية جوزاف عون الواضح للغاية، في أن الجيش هو المسؤول عن الدفاع عن لبنان وحدوده. وقد أوصاه بمواجهة التوغلات الإسرائيلية والتصدي لها. 

 

الحزب يقطع طريق "الوسطاء"

عملياً، جاء هذا الموقف للرد على كل الطروحات التي تم تمريرها حول وضع الجنوب. ما يعني تأكيد لبنان تمسكه بمؤسساته الشرعية الكفيلة برعاية وحماية اللبنانيين والأراضي، وهو ما لقي تأييداً سريعاً من رئيس مجلس النواب وأيضاً من حزب الله الذي رفضت كتلته النيابية بشكل واضح كل الطروحات التي نقلت إلى لبنان، وقالت كتلة الوفاء للمقاومة: "يرزح لبنان والمنطقة تحت هجمة عدوانية وحملة تهديد أميركية إسرائيلية متصاعدة مبرمجة ومنظمة تشارك فيها ‏حكومات وأنظمة وجهات عربية ولبنانية، وتعتمد أساليب الإطباق المالي والخنق الاقتصادي والحصار والضغوط، ‏وتُسخّر لها امكانات إعلامية هائلة تستهدف كيّ وعي الشعوب، ومصادرةَ حقِّها في المقاومة، وإخضَاعها بالكامل أمام ‏الهجمة الاستكبارية لفرض خيار الاستسلام الشامل، ومحاولة تأبيد سيطرة الكيان الصهيونى على المنطقة، وفرضه ‏شرطياً عليها‎.‎ ويعزّز هذه الحملةَ العدوانيةَ تحرِّكُ حاملي الأجندات الأميركيّة الذين ينقلون التهديدات مغلفة بثوب النصح والغيرة ‏على لبنان واللبنانيين، لحضّهم على القبول بالإملاءات والشروط الاسرائيلية الأميركيّة‎". وهذا الموقف هو رفض واضح لكل ما نقلته جهات عربية أو أميركية أو غيرها إلى لبنان. 

 

موقف عون كذريعة لضرب الدولة والمرافق؟

في الموازاة، كانت المواقف الإسرائيلية تتوالى، وهي تندرج في إطار التحضير لأجواء الحرب، أو تصعيد العمليات العسكرية، وهو ما أبلغه أيضاً وزير الخارجية الإسرائيلي للممثلة الشخصية للأمين العام للامم المتحدة في لبنان جانين بلاسخارت، كما أن رئيس الأركان الإسرائيلي إيال زامير أكد أن اسرائيل تستعد للعودة بقوة أكبر إلى جبهات أخرى، في تلميح إلى استئناف العمليات العسكرية ضد الحزب، فيما هناك مخاطر ومخاوف من احتمال استهداف منشآت مدنية أيضاً أو مؤسسات تابعة للدولة اللبنانية. وقد تتذرع إسرائيل بأن حزب الله يستخدمها أو يستفيد منها. والخطر الأكبر هو أن تستخدم إسرائيل موقف رئيس الجمهورية جوزاف عون بتوصية الجيش بالتصدي لتوغلاتها، بأنه موقف يحمي الحزب ويمنحه الغطاء، ما يعني أنها ستعمل على مهاجمة الدولة اللبنانية ومؤسساتها بحجة أن الحزب قد يستفيد منها. وسابقاً، استهدف الإسرائيليون مضخات مياه، ومؤسسات أخرى، مع مخاوف من احتمال استهداف منشآت الكهرباء، لزيادة الضغط على لبنان والدولة والشعب. وهذا ما يترافق مع تسريبات ديبلوماسية كثيرة تشير إلى أن المواقف الدولية غير راضية عن كل المسار اللبناني، وأنه لن يتم تقديم أي مساعدات إذا بقي الوضع على حاله، ولم تعمل الدولة والجيش على سحب سلاح الحزب. 

 

توغّل بليدا يتكرر؟

في هذا السياق، يندرج التوغل البري الإسرائيلي في بليدا والدخول إلى مبنى البلدية، وهو التابع للدولة اللبنانية. وهذا ما قد يتكرر لاحقاً، سواء في سياق استهداف المنشآت الحكومية، أو في تكرار عمليات التوغل البري والدخول في مناطق أو مواقع عبر عمليات إنزال أو كوموندوس أو عمليات برية. وقد كثف الإسرائيليون تدريباتهم على عمليات مشابهة في الفترة الماضية. 

 

واشنطن والسفارة الرابضة على كتف المتوسط  

وأمس، صدر تسريب عن هيئة البث الإسرائيلية مفاده أن تل أبيب أبلغت واشنطن باستعدادها لتصعيد عملياتها العسكرية في لبنان، وهو ما تزامن مع اجتماع عسكري أمني عقده نتنياهو لمناقشة خيارات التعامل مع لبنان. هذا يؤكد أنه لا يمكن لإسرائيل القيام بأي عملية في لبنان من دون التنسيق مع الأميركيين، خصوصاً أن واشنطن قد أنشأت غرفة عملياتها الخاصة في كريات غان، وهذه الغرفة هي التي ستتولى إدارة كل الأوضاع الأمنية والعسكرية والسياسية في غزة وفلسطين والمنطقة. علماً أن وجود الأميركيين وتشكيل قوات دولية لإدخالها إلى غزة، يعنيان سيطرة واشنطن في المنطقة وفي البحر الأبيض المتوسط، وهو ما يريد الأميركيون ملاقاته لاحقاً انطلاقاً من لبنان، ومن الدور الكبير الذي يريدون لسفارتهم أن تلعبه على السواحل اللبنانية بوصفها إحدى أكبر السفارات في العالم. 

 

لبنان وسوريا و"المناطق الاقتصادية"

هذه الفكرة لا تنفصل عن إصرار الأميركيين على إنهاء عمل قوات اليونيفيل في لبنان، وسط تسارع المباحثات لتشكيل قوة دولية أو قوة متعددة الجنسيات كي تنتشر في الجنوب في الفترة المقبلة، وهي تحاكي القوات الدولية التي ستنتشر في غزة، وربما لاحقاً يتم تشكيل قوات مشابهة في جنوب سوريا، التي تريدها إسرائيل أيضاً خالية من السلاح كما أن الطرح الأميركي للأراضي المتنازع عليها بين إسرائيل وكل من لبنان وسوريا هو تحويلها إلى مناطق اقتصادية خالصة ومفتوحة. 

 

في الحالين.. هناك تصعيد 

المسار الذي يريده الإسرائيليون واضح، في ظل الكثير من النصائح التي تلقاها لبنان للاتجاه نحو المفاوضات المباشرة، ورفع مستوى التفاوض. في حال الرفض سيقع التصعيد، وفي حال الموافقة ستواصل إسرائيل ضرباتها لدفع لبنان إلى التفاوض تحت النار وإجباره على تقديم تنازلات. وهنا، ثمة من يستذكر الأيام التي سبقت المفاوضات الجدية في غزة وأدت إلى وقف النار، عندما لجأ الإسرائيليون إلى تكثيف وتصعيد وتوسيع لعملياتهم العسكرية، ونفذوا اجتياحاً برياً لمدينة غزة. وقد اعتبرت تل أبيب أن هذا الضغط العسكري هو الذي أنتج الاتفاق. وفي لبنان، هناك خشية من تكرار السيناريو نفسه.