“نناضل بعين واحدة ونرى الوطن باثنتين”: ضحايا 17 تشرين يتوحّدون بحثاً عن العدالة

كتبت ايناس شري في المفكرة القانونية: 

تروي إيمان ما حصل معها بالتفصيل يومها، وكأنّه بالأمس وتقول: “كنت في محيط مجلس النواب، بدأ الشغب، وما عدت أرى من دخان القنابل، ركضت أبحث عن ابنتي التي كانت معي، وفجأة شعرت بشيء على وجهي، وقعت على الأرض أصبت برأسي وتكسّرت أسناني، وبعدها عرفت أنيّ خسرت عيني”.

لم يخطر في بال إيمان جلّول، الأربعينيّة، يوما أنّها ستُكمل حياتها بعين واحدة، فكلّ ما كانت تريده التغيير، التغيير من أجل وطن أفضل لها ولأولادها الستّة، تغيير كانت تراه وتناضل من أجله بعينيها الاثنتين وباتت اليوم تناضل من أجله بعين واحدة وإن كانت لا تزال تراه بالاثنتين، على حدّ تعبيرها.

كانت إيمان تعمل محاسبة في شركة في الكورة، إلّا أنّه وبسبب فقدان إحدى عينيها لم تعد قادرة على الاستمرار بهذا العمل، فتركته لتعمل سكرتيرة في الشركة نفسها، “أصبحت أخطئ، نظري لم يعد يُسعفني، طلبت من صاحب العمل تغيير وظيفتي بما يتناسب مع وضعي الصحي، الحمد لله ما زلت أعمل، راتبي بالتأكيد لم يعد كما كان حين كنت محاسبة، وإخوتي يساعدونني، لن أقبل أن أكون عالة على أحد، ولا أربّح الوطن منيّة، ما زلت أشارك بالتحرّكات وأحلم بوطن أفضل”، تقول إيمان.

على الرغم من الأمل والحماسة والإصرار على الاستمرار بحياتها كما كانت سابقاً، لا تُخفي إيمان إحساسها بالمرارة وتأثير فقدان عينها على الجانب النفسي، إذ تقول “في كتير إشيا خسرتا، لم أعد أشارك في المناسبات، أرتبك حين أتعثّر بسبب ضعف نظري وأنا في الأربعين من عمري، ليس سهلاً أن تكوني امرأة بعين واحدة، لكنّني كنت من أوّل من نزل إلى الشارع وسأكون آخر من يخرج منه، وسأبقى أبحث عن غد أفضل لأبنائي”.

تماماً كما إيمان، يحاول جاد اسطفان (29 عاماً) أنّ يكمل حياته ويعتبر أنّ لا منّية لأحد على وطنه وأنّ عينه ذهبت في انتفاضة كانت شرارة ضروريّة نحو وطن أفضل. حين نسأله إن كان لا يزال مستعداً للمشاركة في تحرّكات مطلبيّة يتنهّد ويجيب: “ما بقى شارك بصدر عار، هذه السلطة لا تعرف معنى السلميّة، أنا شاركت بتظاهرة  8 آب بعد أشهر على إصابتي، ولكن عندما سمعت أصوات سيارات الإسعاف عرفت أني أعاني من تروما، نعم سأشارك، التغيير آت ونحن لم نفشل، نحن نراكم، نحن نموت حين نتوقّف عن العمل، إذا توقّفنا تكون السلطة انتصرت”.

كان جاد من أوّل الأشخاص الذين فقدوا إحدى أعينهم في انتفاضة 17 تشرين، إذ أصيب في 18 تشرين الأول 2019 خلال تظاهرة حاشدة في شارع المصارف جهة السرايا الحكوميّة. يُخبر جاد تفاصيل تلك الليلة ويقول لـ “المفكرة:” التظاهرات كانت سلميّة، الإحساس كان جميلاً جداً بأن ترى ذلك العدد من المتظاهرين الساعين إلى التغيير، فجأة بدأ الشغب، طابور خامس ربما، بدأ البعض يضرب حجارة، كنت أتحدث مع الدرك وفجأة رُميت قنبلة على وجهي من مسافة قريبة، لم أفهم ما الذي يحصل، لم أفقد الوعي ولكنّي ظننت أني ميت، فلم أستطع أن أصرخ، أو أن أتكلم، رميت نفسي على الأرض علّ أحدهم يراني وينتشلني”.

بعد خمسة أيام من الحادثة عرف جاد أنّه فقد إحدى عينيه، أجرى من وقتها حتى اليوم 5 عمليات على حساب وزارة الصحّة (وزارة الصحّة تكفّلت بكلّ من أصيب في التظاهرات في تلك الليلة)، لم يضع جاد  عيناً اصطناعية (بروتيز) مكان عينه ولكنّه لا يخلع غطاء العين (البادج)، الذي صار جزءاً من وجهه.

كان جاد يعمل في مجال الإضاءة وهو يملك وصديقه ملهى ليلياً صغيراً. بعد العام 2019 ومع بدء الانهيار الاقتصادي اضطرّا إلى إقفاله وبما أنّ نظره لم يعد يسمح له بممارسة عمله الذي يحبّ أي الإضاءة غيّر مجال عمله: “فتحت مكتباً في منزلي حيث أعمل في مجال تقديم الاستشارات في قطاع الاستثمارات”.

لا يجد من فقدوا أعينهم خلال انتفاضة 17 تشرين أيّ نفع للحديث عن وضعهم، “تحدّثنا كثيراً ولم يتغيّر شيء، شو نفع الحكي” يقول نسيم محسن الذي فقد إحدى عينيه في محيط مجلس النواب جهة مسجد الأمين في الثامن من آب 2020 أيضاً.

يعرف من فقد عينه جيّداً بأنّ أيّ حكم قضائي وإن كان لصالحه لن يُعيد إليه ما فقده، ولكنّه سيُعطي أملاً بدولة يسودها القانون، أملاً بدولة تحمي مواطنيها، “يجب أن يُحاسب من أطلق الرصاص على عيني، لا شيء يُعيد عيني، ولكنني سأرتاح عندما يعلو صوت القانون وأرى من أفقدني عيني داخل السجن” يقول حسين الراشد الذي أصيب في 8 آب 2020  في عينه بعدما وجّه شخص بلباس مدني عن قصد، على حد تعبيره، رصاصة مطاطية إلى وجهه مباشرة أمام فندق “لوغراي”.

يأمل حسين الذي وكّل مؤخراً محامياً لتقديم دعوى قضائيّة أن يأخذ القضاء مجراه إلّا أنّ من سبقوه إلى تقديم الدعاوى يرون أنّ القضاء يعمل على قاعدة” إمّا يموت السلطان أو أموت أنا أو يموت الحمار” في إشارة إلى المماطلة وحفظ القضايا.

لم تعلن النيابات العامة أو الاجهزة الأمنية عن أي تحقيقات في العنف الأمني المفرط خلال التظاهرات، كما امتنعت النيابات العامة عن التحقيق جدياً في الشكاوى المقدمة من قبل المتظاهرين فيما استمرّت في ملاحقتهم على خلافية مشاركتهم في التظاهرت. ولم يتخذ مجلس النوّاب اي خطوة في اتجاه مساءلة الحكومة أو قادة الأجهزة الأمنية بشأنه، فبقيت كل هذه الجرائم من دون اي محاسبة. لكن 8 أشخاص ممّن فقدوا أعينهم لجأوا إلى القضاء، خمسة منهم إلى مجلس شورى الدولة والباقي إلى القضاء الجزائي الذي حوّل بدوره عدداً منهم إلى القضاء العسكري.

وفي التفاصيل يوضح المحامي مازن حطيط أنّه تمّ تقديم شكاوى إلى النيابة العامة التمييزية لمجموعة أشخاص أصيبوا في تاريخي 8 و11 آب 2020 ومنهم كانت إصاباتهم في العيون، مضيفاً في حديث مع “المفكرة” أنّ النيابة أحالت الشكاوى إلى مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكريّة الذي حوّلها إلى فصيلة وسط بيروت مكان وقوع الاعتداء.

ويشرح حطيط أنّ مفوّض الحكومة بالإنابة لدى المحكمة العسكرية فادي عقيقي قرّر استدعاء المدّعين (المصابين) للإدلاء بإفاداتهم على غير العادة، وأنّهم نزلوا وأدلوا بإفاداتهم ولكن لم يحصل أيّ تطوّر في القضية بعدها، إذ لا يزال الملف موجوداً في فصيلة وسط بيروت، مضيفاً “قدّمنا أكثر من كتاب لعقيقي لتحريك الملف، وتقدّمنا بطلب إفادة بمسار ومصير الشكاوى ولم نحصل على أي رد”. 

ويشير حطيط إلى أنّه أثناء مراجعته لمفوّض الحكومة للمطالبة بتحريك الملف بخاصّة بعد إبراز صور لمن أطلقوا النار بلباس مدني، قال عقيقي “أريد أن أحمي البلد” ما اعتبره حطيط انحيازاً لشرطة المجلس فكان ردّه “حماية البلد تكون بوضع من أطلق النار في السجن”.

وليس بعيداً تقول المحامية ديالا شحادة موكلة أحد الذين فقدوا أعينهم يوم 8 آب، أنّها تقدّمت  بشكوى لدى النائب العام التمييزي ضد مجموعة حرس مجلس النواب باعتبارها “عصابة مسلحة لا تتبع لأي جهاز أمني مرخص” وأنّه تمّت إحالة الشكوى إلى المباحث الجنائيّة.

وتشير شحادة في حديث مع “المفكرة” إلى أنّها طلبت من خلال الشكوى سحب كاميرات مسجد الأمين والمباني المجاورة واستدعاء نبيه بري “بصفته المسؤول عن الإشراف على أمن المجلس بحسب النظام الداخلي لمجلس النواب” بالإضافة إلى شهادة وزيرة الداخلية ريا الحسن بصفتها وزيرة داخلية سابقة صرحت في الإعلام خلال ولايتها بأنّ حرس المجلس لا يتبعون إلى قوى الأمن الداخلي ولا إلى أي قوى رسمية بل إلى رئيس المجلس مباشرة.

وأضافت شحادة أنّ المدعي العام التمييزي امتنع عن استدعاء بري والحسن وانتهت التحقيقات الأوّلية بعدما خلصت إلى عدم رصد أي وجه لأي معتد في الكاميرات المسحوبة، وتمّ حفظ الشكوى لعدم كفاية الأدلة، مشيرة إلى امتناع القضاء عن تسليم داتا الكاميرات إلى المحامين حينها.

هذا وفضّل بعض من أصيب بأعينهم ( 5 أشخاص، منهم 4 فقدوا إحدى أعينهم) اللجوء إلى مجلس شورى الدولة بدلاً من القضاء الجزائي. وفي هذا الإطار يقول المحامي حسام الحاج وكيل هؤلاء إنّ اللجوء إلى مجلس شورى الدولة كان لاستحالة تحديد الشخص مطلق النار موضحاً في حديث مع “المفكرة” أنّ الدعوى أمام مجلس شورى الدولة موّجهة ضدّ الدولة اللبنانية وزارة الداخلية وقوى الأمن الداخلي، وأنها ركّزت على الإفراط في استخدام القوّة ضد أشخاص عزّل، فضلاً عن التركيز لجهة التعويضات على أنّ  الأضرار التي لحقت بهؤلاء الأشخاص ليست آنيّة، وهي أضرار متعدّدة، منها التأثير على فرصهم بالعمل والزواج مثلاً.

ويشرح  الحاج في حديث مع “المفكرة” أنّه بسبب ضعف القدرة المالية للمدّعين تقدّم بطلب معونة قضائية في شهر حزيران 2021 لتأتي الموافقة عليها بعد أربعة أشهر، موضحاً أنّه في نهاية العام 2021 قدّم المراجعة وبعد شهر تبلّغت الدولة المستدعى بوجهها وبعد 6 أشهر قدّمت الدولة طلب تمديد مهلة ليتقرر إعطاءها شهراً واحدة للجواب.

ويُضيف الحاج أنّه في ظلّ المماطلة وحتى تاريخه، قدمت الدولة لائحة جوابية واحدة في تموز العام الماضي جاء فيها أنّ الكثير من عناصر قوى الأمن تعرّضوا لإصابات فاضطروا إلى استخدام العنف، مشيراً إلى أنّ الجواب شكّك بالتقارير الطبية. واعتبر أنّ المسافات كانت بعيدة من دون أي إثبات رغم أنّ التقارير تتحدث عن إصابات عن 3 و 4 أمتار. وتمنّى الحاج من مجلس شورى الدولة الالتزام بالمهل والإسراع بالبتّ. 

وفي ظلّ عدم شعور من فقدوا أعينهم بإمكانيّة إنصافهم في القضاء المحلّي حاول عبدالله الحاج اللجوء إلى القضاء الدولي إذ يُخبر “المفكّرة” أنّه حضّر ملفاً مع محامين في الخارج تبرعوا لمساعته، إلّا أنّه تبيّن له بعدها أنّه لا يمكن التحرك دولياً من دون الحصول على حكم داخلي، “التحرّك دولياً مشروط بأن تكون الدولة لم تأخذ حقك” لذلك أتمنى أن يصدر أيّ حكم في الداخل وإن لم يكن لصالحي حتى أتحرّك دولياً.