نوّاف سلام: “العميل”… الذي يحمي لبنان والشّيعة

لقد فعل نوّاف سلام ما كان كثيرون يخافون فعله أو حتّى الاقتراب منه. لم يرتجف أمام “الديب”. وعلّمنا أنّ “راجح” هو الكذبة التي ظلّت تخيف رؤساءَ وحكوماتٍ وسياسيّين، وتمنعهم من النطق بالحقيقة… بخطوة واحدة، وبقرار واحد، فكّك أسطورة “الحرب الأهليّة” و”اليد التي ستمتدّ سنقطعها”. وأثبت أنّ الدولة حين تجرؤ وتريد، أقوى من الوهم الذي كبّل البلاد لعقود.

بوقاحة قلّ مثيلها، رفع مجهولون صور رئيس الحكومة نوّاف سلام في أحد شوارع منطقة الهرمل الشيعيّة، وكتبوا عليها: “العميل لا طائفة له ولا ديانة”. ورُفعت صور أخرى تتّهمه بأنّه “صهيونيّ”. مشهدٌ جدير بالتوقّف طويلاً عنده. وقد ردّت “العشائر العربية” في لبنان، أي السنّيّة، ببيان يقول إنّها “لافتات فتنة”، وأشادت بسلام.

تخيّلوا لو أنّ هذه العشائر قرّرت الردّ ورفع صور قادة أو شهداء لـ”الحزب”، وشتمهم. إلى أين كنّا سنذهب؟ لرأينا الشاشات مشتعلة، والموتوسيكلات في الشوارع، وخطابات التخوين حتّى آخر الليل.

هل هذه هي “الحرب الأهليّة” التي هدّدنا بها الأمين العامّ لـ”الحزب” الشيخ نعيم قاسم، الذي ردّ عليه الرئيس نبيه برّي عبر قناة “العربية” بالطمأنة أن لا حرب أهليّة وأنّ السلم الأهليّ محفوظ؟

التّحريض اليوميّ ضدّ السّعوديّة وموفدها

يتزامن هذا الهجوم اليومي على الرئيس نوّاف سلام مع تحريض لا يتوقّف من إعلام “الحزب” والناطقين باسمه، ضدّ المملكة العربية السعودية، وضدّ موفدها إلى لبنان الأمير يزيد بن فرحان. من الجرائد إلى الشاشات والمنصّات والبرامج الترفيهية وصولاً إلى مواقع التواصل الاجتماعي.

ألا يعرف “الحزب” أنّ السعوديّة هي المرجع الأوّل للسُّنّة في العالم وليس في لبنان فقط؟ هل يريدون حرباً مع السّنّة الذين يتقدّمون في المنطقة؟ هل يريدون بعد الحرب مع إسرائيل أن يضعوا الشيعة في لبنان بمواجهة مليار مسلم سنّيّ؟

أليست المملكة العربية السعودية هي التي رعت وثيقة الوفاق الوطني، وباسمها سُمّي اتّفاق “الطائف”؟ وهل يدفع “الحزب” باتّجاه حرب سنّيّة – شيعية تبرّر له محلّيّاً، وربّما إقليميّاً، الاحتفاظ بجزء من سلاحه؟

اختفاء الموتوسيكلات… بداية جيّدة

هناك جانب إيجابيّ لا بدّ من الالتفات له.

بعد أسبوعين من قرار حكومة الرئيس نوّاف سلام حصر السلاح بيد الدولة، اختفت “الموتوسيكلات” من شوارع بيروت. بدأ الجيش إعداد خطّة التنفيذ. وتغيّر منطق “الحزب” من الرفض إلى اشتراط “التزام إسرائيل” بما تنصّ عليه ورقة المبعوث الأميركي توم بارّاك.

كأنّ نوّاف سلام “فضح” كلّ التهويل. وقف على حافّة الهاوية، وأثبت لنا أنّها ليست هاوية، بل هي باب ليوم جديد.

رفع الدّستور عالياً

نوّاف سلام، على الرغم من التحريض المذهبي، رفع “الكتاب” أمام المتشكّكين والخصوم. أعاد الاعتبار للدستور، ورفعه عالياً أمام وجوه الخصوم والحلفاء، الأعداء والأصدقاء. لم يرضخ لابتزاز الطوائف ولا لإرهاب “الميثاقيّة”. وحين خرج اثنان من الوزراء الشيعة، اعتبر أنّهما صوّتا بـ”لا”، طاوياً صفحة الميثاقية المزوّرة التي لطالما استُخدمت أداةَ تعطيل وترهيب.

قدّم نموذجاً جديداً: رئيس حكومة يملك شرعيّة داخلية، ودعماً عربيّاً ودوليّاً، يفاوض بثقة ويقرّر بشجاعة ويُخرج البلاد من حال المراوحة.

كلّ هذا في زمن امتلأنا خلاله بالخيبات. زمن تحويل الحكومات إلى لجان تصريف أعمال. وزمن تحويل رئيس الحكومة إلى “باش كاتب”، إمّا لدى “الحزب”، أو لدى ميشال عون، أو لدى المجموعة المصرفيّة أو المافيا السياسية، إن لم يكن لدى حلف الميليشيا.

وسط كلّ هذه الخيبات جاء نوّاف سلام لينقل لبنان، من محضر جلسة واحدة لمجلس الوزراء، إلى فصل جديد في تاريخ الجمهورية. من الماضي إلى المستقبل.

التّحرير بالطّريق الدّبلوماسيّة؟

لطالما حاول الممانعون في لبنان والمنطقة أن يسخروا من “الدبلوماسية”. باعتبارها سلاح الضعفاء. وسوّقوا أن لا سبيل إلى الرخاء والازدهار والحرّيّة إلّا من فوهات البنادق ورؤوس الصواريخ وعلى أجنحة المسيّرات.

جاءت حروب 2023 – 2024 – 2025 لتهزم المحور الإيراني كلّه. الذي قاتلته إسرائيل على 7 جبهات، وانتصرت عليه. وظلّت دول التطبيع، ومعها دول السلام الحدوديّة، مثل الأردن ومصر، في أمان وسلام.

سقطت مقولة الحماية بالصاروخ والنفق. وجاءت حكومة نوّاف سلام لتقترح تحرير الجنوب المحتلّ بالدبلوماسية. بالمعاهدات لا بالرصاص. وهذا ما سيكون… هناك كلام جدّيّ في الصالونات الغربية والعربية المعنيّة بلبنان، عن أنّ إسرائيل ستنسحب من بعض النقاط الخمس أو كلّها قريباً، وستوقف اعتداءاتها أو تخفّض وتيرتها، بالتفاهم مع أميركا. وسيكون لبنان حرّاً للمرّة الأولى بالدبلوماسية. وهذا يعتبر نقطة تحوُّل تاريخية.

خلال أشهر قد يكون لبنان خالياً من السلاح، إذا تمّ تنفيذ قرار الحكومة الصادر في 5 آب 2025. وقد بدأ سحب الأسلحة من المخيّمات الفلسطينية. ولن تكون هناك أحزاب مسلّحة، من الأظفار إلى الأسنان. لا من القوميّين ولا المذهبيّين.

نهاية الزّمن الإيرانيّ

لبنان الذي يقترحه نوّاف سلام، وسط التحريض المذهبي ضدّه وضدّ السعوديّة، هو ذاك الذي فيه رئيس جمهوريّة ورئيس حكومة ووزير خارجية يوبّخون أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي لاريجاني. فقد واجهه الثلاثة بالاعتراض على “التدخّل الإيراني”، بتصريحات مسؤولين إيرانيين هم مستشار المرشد الأعلى الإيراني علي أكبر ولايتي ووزير الخارجية عبّاس عراقجي وأمين المجلس الاستراتيجيّ الإيراني علي باقري.

بات لبنان قادراً على أن يفرض قراره. فقط بقوّة حكومته ووحدتها. يفرض قراره على إيران. وكذلك على أميركا، حين طالب الرؤساء الثلاثة المبعوث الأميركي توم بارّاك بالضغط على إسرائيل لتنفيذ التزاماتها.

ما عادت الدبلوماسية تعني “الشجب” و”الاستنكار” و”التعبير عن القلق”. بل صارت في زمن بداية عودة الدولة في لبنان، قوّةً وقدرةً وآليّاتٍ مدروسةً للضغط، تستند إلى وحدة داخلية وإجماع عربي وقوّة دفع أميركيّة وغربيّة.

عودة العرب… والدّستور

يبقى أكبر إنجازات نوّاف سلام أنّه أعاد الاعتبار للدستور. والدستور هو العقد الاجتماعي الذي صيغ في مدينة سعوديّة هي الطائف، وسمّي باسمها “اتّفاق الطائف”. وربط الإصلاح السياسي بالثقة الاقتصادية. وضع خطّاً فاصلاً بين دولة المزرعة التي عشنا فيها لعقود، وبين دولة القانون وإصلاح القوانين الاقتصادية والمصرفيّة.

كما أنّه، بالقرار الذي اتّخذته حكومته، حمى الشيعة من مجزرة جديدة، ومن احتمال حرب تهجير لقرى جديدة، وتدمير لمدينتَي النبطيّة وصور وما بقي من ضاحية بيروت الجنوبية. وأحيا احتمال إعادة الإعمار لمناطق الشيعة، بدلاً من الحرب.

هنا تكمن معادلة “كفّى ووفّى”، و”رفع الدستور عالياً”. وهنا معنى الحماية بالشرعيّة، وليس بالصواريخ. وهذا ما أعاد فتح أبواب العرب، والخليج تحديداً، الذي رحّب بقرار الحكومة. وفتح أبواب الغرب وأميركا التي التزمت منع أيّ اعتداء إسرائيليّ. وهذا ليس تفصيلاً. بل تحوُّل استراتيجي يضع لبنان في قلب خريطة المنطقة وليس على هامشها. وهو ما جعل من بيروت، مجدّداً، محطّة يتوقّف فيها قطار المنطقة.

نحن اليوم في الجمهوريّة الثالثة، العربية. جمهورية “ما بعد السلاح” و”ما بعد الميليشيا” و”ما بعد الوصايات”.