هِبات لم تُسجَّل ومليارات ضاعت: وجه إضافي للفساد

لطالما "تميّز" المسؤولون في لبنان عموما والادارة العامة خصوصا بعدم الشفافية أو الانضباط القانوني في استخدام المال العام، بيد أن مظاهر الفساد استشرت في الطبقة السياسية وتغلغلت في جميع مفاصل الادارة العامة بشكل وقح ومعلَن في العقود الاخيرة، وتحديداً بعد انتهاء الحرب والبدء بمشروع إعادة الإعمار الضخم.

فقد دفع الحرص على لبنان والارادة بإعادته الى سابق عهده ودوره الكثير من اصدقائه في الغرب وأشقائه العرب منذ أواسط التسعينات، الى المسارعة للمساهمة في مشروع إعادة الإعمار من خلال تقديم الهبات والقروض السخية للحكومات اللبنانية، وتمويل معظم مشاريع البنية التحتية وغيرها من مقوّمات بناء الاقتصاد ومؤسسات الدولة. لكن ما لم يلحظه المانحون، إذا لم نقل إن السلطات الفاسدة أعمتهم بشطارتها، هو أن مزاريب الهدر والفساد كانت تودي بكل ما يدخل البلاد الى جيوب النافذين والمحظيين من دون المرور بالطرق القانونية والمحاسبية، ومن دون لحظ غالبيتها بالموازنات السنوية، اضافة الى اخفاء بعضها عن الهيئات الرقابية ما جعلها أشبه بمال متروك، عُرف صاحبه ولم يُعرف صارفه. حتى أن قروضاً صُرفت على الورق فيما المشاريع لم تبصر النور. هذه الاموال، وإنْ لم تكن تترجَم في مشاريع تفيد البلاد، إلا أن معالمها كانت واضحة في القصور، والعقارات، والشركات والاموال الطائلة لدى غالبية مَن لم تُعرف لهم مهنة غير السياسة أو السلطة، فتحوّل شعار "الشاطر بشطارتو" الى القاعدة التي تعتمدها الطبقة الحاكمة وزبائنها في الادارة.

 

أموال طائلة من الهبات الدولية والعربية لم يفد منها اللبنانيون، فمنها ما نُهب ومنها ما صُرف من دون اي رقابة، فكانت النتيجة إيرادات فائتة على الخزينة العامة. ولعل آخر ما أُنفِق من دون أي رقابة أموال حقوق السحب الخاصة بلبنان SDR التي وُضعت بحساب خاص في مصرف لبنان وصُرفت من دون ان تدخل إلى حسابات الخزينة. وهنا لا بد من الاشارة الى التقرير الخاص الصادر عن ديوان المحاسبة مطلع 2023، الذي بيّن أن 92% من الهبات صُرف خلافا للقانون ومن دون رقابة منذ سنة 1997، وأن القسم الضئيل جداً من الهبات خضع لرقابة وزارة المال، ودخل ضمن حسابات الدولة العامة واحتُسب أثناء إعداد الموازنات وقطع الحسابات. وعدد كبير من الجهات المانحة قرر تنفيذ الهبة بنفسه، وفي هذه الحالة لم تُسجل أي هبة، فضلاً عن مخالفات عدة اخرى. وتاليا فإن النسبة الكبرى من الهبات بقيت خارج خزينة الدولة وآلت الى الجيوب، ولم تكن موضع تحقيق اداري أو قضائي، ولم نعرف كيفية صرفها أو مَن صرفها.

بتاريخ 9/10/2023، شرعت لجنة المال والموازنة في درس مشروع موازنة العام 2024 وسلّطت الضوء في نقاشاتها على النهج الممارَس في قيد الهبات وإنفاقها، والممتد منذ التسعينات حتى اليوم. النقاش في اللجنة أدى الى تعليق البحث في المادة السابعة من #مشروع موازنة 2024 المتعلقة بأصول إنفاق الهبات والقروض الخارجية، فيما احتدم النقاش في شأن النهج الممارَس في قيد الهبات وصرفها منذ التسعينات حتى اليوم.

بغضّ النظر عن الحالات الاستثنائية مثل الحروب، التي يلحظ الدستور اصول التصرف حيال قبول الهبات والقروض، ثمة سؤال عن الآلية القانونية لقبول الهبات وصرفها؟ المحامية الدكتورة جوديت التيني توضح لـ"النهار" ان المادة 52 من قانون المحاسبة العمومية وتعديلاتها حددت آلية قبول الهبات النقدية والعينية، وقد ساوت بين الأموال الموهوبة على اختلافها، وسواء كانت عينية أو نقدية. "ووفقا لهذه المادة تقيَّد الهبات في قسم الواردات من الموازنة، وإذا كانت لهذه الهبات وجهة إنفاق معيّنة تُفتح لها اعتمادات بقيمتها في قسم النفقات. فتسجيل الهبات هو واجب قانوني، ولا بد من ان يكون وفقا للأصول القانونية، وان يتم إنفاق الأموال وادارتها وفقا للأصول ايضا، وفي ذلك تطبيق لمعايير النزاهة والشفافية". وتؤكد التيني أنه "يتوجب التقيد بأصول عدة، أولها أن تسجيل الهبات لا يكون بفتح حسابات خاصة بل ان تسجيلها يجب ان يتم في حساب الخزينة (حساب موحد للخزينة) وادخالها في الموازنة. فالحسابات الخاصة خارج الموازنة تشكل مخالفة صارخة لمبدأ الوحدة وهي تقيد إيرادات يجب ان تعود للموازنة". وتلفت الى أنه "منذ تعديل المادة 52 من قانون المحاسبة العمومية بموجب المادة 85 من موازنة العام 2019 الصادرة بالقانون 144/2019، يكون قبول الهبات التي تتجاوز قيمتها 250 مليون ليرة بمراسيم تُتخذ في مجلس الوزراء، سواء كانت تلك الهبات داخلية أو خارجية، نقدية أو عينية. اما الهبات دون ذلك المبلغ، فتُقبل بناء على مرسوم عادي أي بناء على اقتراح وزير المال والوزير المختص، على أن تُسجل في قسم الواردات من الموازنة، إلا إذا كانت لها وجهة إنفاق محددة فتفتح لها وفقا للأصول اعتمادات بقيمتها في قسم النفقات من الموازنة. ووفقا للمادة 52 من قانون المحاسبة العمومية وتعديلها المشار اليه، على وزير المال أن ينظم جدولا فصليا بالهبات كافة مهما كانت قيمتها والواردة الى الخزينة، ورفعه الى الحكومة للاطلاع. كما ان على المؤسسات العامة التي مُنحت هبات ان تقدم لوزارة المال كشف حساب بعد تنفيذ المشاريع. فعدم قيد هبات مُنحت شكّل انتهاكا لأحكام المرسوم 8620/1966، فيما اليوم لا بد من التقيد بأحكام قانون الشراء العام المعنيّة بإدارة أموال الهبات".

التقيد بما ذُكر، برأي التيني "يمكّن وزارة المال من ممارسة رقابتها التي تضاف الى رقابة ديوان المحاسبة على إنفاق الهبات، ورقابة الديوان هي رقابة مسبقة ولاحقة على المؤسسات الخاضعة له. ودور ديوان المحاسبة في التدقيق في حسابات الدولة ووضع التقارير من شأنه ان يحرك النيابة العامة لدى الديوان للادعاء أمام الغرف القضائية المختصة، علما ان وجود حسابات للدولة بشكل عام هو امر جوهري بحيث يمكن الرجوع اليها والتمحيص في كل ما مُنح وصُرف من هبات وتحديد المخالفات".

اليوم وفي ظل مناقشة مشروع موازنة 2024، تُعنى المادة السابعة من هذا المشروع، والتي تجد لها مثيلا في الموازنات السابقة المقرة (نص المادة السابعة في موازنة 2019 ونص المادة السابعة في موازنة 2022)، بتحديد أصول قبول وإنفاق الهبات والقروض الخارجية. وبعدما فُتح النقاش حول تسجيل وصرف الهبات والقروض المعقودة سابقا، تم انتقاد أحكام هذه المادة حول ما تحتويه من إدارة للأموال في المستقبل، لا سيما حيال اجازتها بنقل الاعتمادات الإضافية المتعلقة بالهبات النقدية من بند إلى آخر بقرار من الوزير المختص ووزير المال بعد تأشير المراقب المركزي لعقد النفقات، وطالما ان الجهة الواهبة ترغب في إجراء هذا النقل، وليس في ظل رقابة مجلس النواب وبموجب قانون يقره في الوقت المناسب ووفقا للظروف القائمة.

وتجيز هذه المادة اقرار السلفات المالية الطارئة لدفع النفقات الممولة من الهبات النقدية وإمكان تدوير الاعتمادات المحجوزة للسلفات المالية الطارئة والمتعلقة بالهبات المعطاة خلال سنة مالية معينة لتأدية موجبات يتعدى تنفيذها السنة لدفع النفقات الممولة من هذه الهبات الى حين انتهاء تنفيذ الأعمال المتعلقة بالهبة إلى موازنات السنوات المالية اللاحقة، وإمكان ان يتم تدوير أرصدة الاعتمادات كافة غير المعقودة الممولة من الهبات النقدية والقروض إلى موازنات السنين اللاحقة.

وتخلص التيني الى القول ان "إعادة النظر في الصرف الماضي، ولو انه تم وانتهى، فضلاً عن اجراء تقييم دقيق للنهج الممارس وتحديد المسؤوليات والمحاسبة على الارتكابات، امر ضروري للحد من الإساءة الى المال العام وتصويب ادارته، وهذا المبدأ يسري على أموال الهبات وسواها".