لعله لم يكن مفاجئاً قرار إسرائيل تأجيل سحب قواتها من مناطق جنوب لبنان لأيام وأسابيع إضافية، بعد انتهاء مهلة الستين يوماً للهدنة الانتقالية فجر الاثنين المقبل. إذ مهدت الدولة العبرية وإعلامها لهذا الأمر منذ اللحظة الأولى لسريان الاتفاق، سواء بسردية الذرائع الأمنية، أو بجمع صور وتسجيلات بشأن خروق "حزب الله" جنوبي الليطاني طيلة الهدنة، ثم عرضها على الولايات المتحدة وفرنسا لإقناعهما بتمديد الانسحاب.
وقالت تقارير عبرية أن المستوى العسكري الإسرائيلي رصد خلال الهدنة، وجود عناصر لـ"حزب الله" جنوبي الليطاني، وأن الجيش اللبناني لم يتعامل مع مخازن أسلحة وبنى تحتية لـ"حزب الله" في المنطقة، مقدماً توصية بالبقاء حتى إزالة جميع التهديدات. وعادت حكومة نتنياهو للحديث عن ربط عودة سكان المستوطنات المحاذية للبنان، بتطهير كامل منطقة جنوبي الليطاني من خطر "حزب الله".
بموازاة ذلك، وجدت إسرائيل ضالتها في أحد بنود اتفاق وقف إطلاق النار، الذي جرى التوصل إليه برعاية أميركية وفرنسية، وقالت أن إصرارها على سحب قواتها من جنوب لبنان بشكل تدريجي، وليس دفعة واحدة، يأتي من إدراكها أن عملية الانسحاب قد تستغرق أكثر من 60 يوماً، ما يعني أن تل أبيب ترى في هذا البند مسوغاً لتمديد بقاء قواتها في عدد من النقاط في الجنوب اللبناني.
وفي حين تحدثت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل"، عن ضغط تنفذه إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على إسرائيل للانسحاب من جنوب لبنان وفق الجدول الزمني المحدد بالاتفاق، إلا أن مراسلين عسكريين إسرائيليين أوضحوا في إفاداتهم التلفزيونية العبرية، أن إبقاء القوات الإسرائيلية هو توصية من الجيش للمستوى السياسي، معتبرين أن القرار مُجمعٌ عليه من قادة إسرائيل السياسيين والعسكريين.
كما أن البقاء العسكري في نقاط لبنانية، متفق عليها بين اليمين الحاكم والمعارضة. إذ أكد القطب المعارض، بن غانتس، ومعه رئيس حزب "يسرائيل بيتنا" أفيغدور ليبرمان، أنه لا يجوز للجيش الإسرائيلي الخروج من المنطقة العازلة جنوبي لبنان هذه الأيام، بل عليه "تشديد رده ضد كل خرق لحزب الله، في إطار تعلم الدروس من هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023".
والحال أن مساعي إسرائيل تسويغ بقائها بمناطق بالقطاع اللبناني الشرقي، تبدو كلها مجرد غطاء لتوجه اتخذته الدوائر الاستراتيجية بالدولة العبرية بعد تشرين الأول/أكتوبر 2023، يقوم على توصية بإقامة مناطق أمنية واسعة مع لبنان وسوريا وغزة، وعدم الاكتفاء بالحدود والأسوار الأمنية. ووفق هذه الرؤية، تحاول تل أبيب تكريس المنطقة الأمنية الواسعة مع لبنان، سواء بالاتفاق أو بالقوة النارية.
وتثير فكرة المنطقة الأمنية أو الدفاعية، تساؤلات بشأن فهم تل أبيب للاتفاق مع لبنان، وما إذا كان انسحابها منها بلا عودة، أم ستعود إليها مستقبلاً تحت أي حجة كانت؟ وهل تفهم إسرائيل الاتفاق على أنه تغيّر في شكل المعركة مع "حزب الله" لا أكثر؟ خصوصاً أن الإعلام العبري نقل عن مستويات أمنية وعسكرية إسرائيلية، بأنه في حال عدم تنفيذ الجيش اللبناني التزامه بالسيطرة وبسط سيطرته جنوبي الليطاني، فإن القوات الإسرائيلية مستعدة لتنفيذ أي سيناريو، وسترد "بشكل فوري" على أي خرق للاتفاق.
في السياق، ذكرت تقارير عبرية أن هناك اتصالات تجريها إسرائيل مع واشنطن، لإبقاء قواتها في 5 نقاط على الأقل في مناطق لبنانية حدودية، تحديداً في البلدات اللبنانية الواقعة على مرتفعات أعلى من المستوطنات. كما طرحت محطات التلفزيون والإذاعة العبرية تساؤلات بشأن ما تحمله ساعات ما بعد فجر الإثنين، وهو موعد انتهاء الهدنة التجريبية، إذا أجّل الجيش الإسرائيلي انسحابه من بعض المناطق اللبنانية.
وذكر تلفزيون "مكان" أن تقديرات عسكرية تشير إلى أن "حزب الله" لن يستأنف المواجهة بعد فجر الإثنين، مضيفاً أن الجيش عزز قواته في نقاط لبنانية، تأهباً لاحتمال استهداف الحزب للجنود الإسرائيليين الذين سيبقون في لبنان.
وأكدت الإذاعة العبرية الرسمية، استمرار الغموض بشأن قدرة الأطراف على تجنب تجدد المواجهة العسكرية، موضحة أن إدارة ترامب هي التي تملك الإجابة على الأسئلة المتعلقة بسيناريوهات ما بعد يوم الأحد. واستعان تلفزيون "مكان" بأحد موظفيه من أصول لبنانية، بوصفه محللاً للشأن اللبناني، وهو بيار دياب، لقراءة ما تخفيه الساعات المقبلة، وما إذا كانت النيران ستشتعل مجدداً في الجبهة الشمالية أم لا.
وقال دياب أن الرئيس اللبناني جوزاف عون، يقوم الآن بحملة دبلوماسية للضغط على إسرائيل للالتزام بالجدول الزمني للانسحاب، في مقابل محادثات تجريها تل أبيب مع واشنطن وباريس لتمديد بقاء قواتها في نقاط محددة.
رغم ذلك، حاول الإعلام الإسرائيلي تقديم الموضوع ضمن سياق نقاش لبناني داخلي، وليس مع إسرائيل. وتحدث دياب عن بيان "حزب الله" الذي دعا سكان بلدات لبنانية إلى التوجه إلى بلداتهم، حتى لو لم تنسحب القوات الإسرائيلية منها، ثم تلاه بيان من الجيش يحث السكان على عدم العودة، إلا عند إخبارهم بذلك، لعدم تعريض أنفسهم للخطر.
واعتبر دياب أن هدف بيان "حزب الله" هو تقديم رسالة إلى "العهد الجديد" بأن الحزب "مازال هو الآمر والناهي في لبنان". ورأت أقلام عبرية أن مستقبل "حزب الله" يبقى مرتبطاً بالسياسة التي ستنتهجها إيران إزاء الحزب ولبنان، بعد الضربات التي تكبدها الحزب في المواجهة الأخيرة.
من جهته، حسم محلل الشؤون اللبنانية، جاك نيريا، بأن إسرائيل ستبقى في مواقع على الحدود، خصوصاً في القطاع الشرقي، موضحاً أن هناك أسباباً داخلية لـ"حزب الله" تدفعه إلى عودة الحرب، لاستعادة مركزيته في السياسة الداخلية اللبنانية.
ورداً على سؤال بشأن إمكانات الضغط الأميركي على إسرائيل، قال نيريا أن رئيس مجلس النواب نبيه بري، طلب خلال لقائه الجنرال الأميركي غاسبر جيفيرز في عين التينة، أن يفتح النافذة، كي يسمع صوت مسيرة إسرائيلية. فكان ردّ فعل الجنرال الأميركي هو الضحك. واعتبر نيريا تلك الضحكة بمثابة دليل على إدراك واشنطن للواقع على الأرض، بشكل جيد، وأن انتشار نحو 6 آلاف جندي لبناني، ليس كافياً للسيطرة على جنوب الليطاني.