المصدر: المدن
الخميس 27 تشرين الثاني 2025 18:14:51
نَشَرَت صحيفة "هآرتس" الإسرائيليّة تقريرًا جديدًا قالت فيه إنّ اغتيالَ رئيس أركان "حزب الله" هيثم عليّ الطبطبائيّ في بيروت، يومَ الأحد، حَظيَ بدعمٍ واضحٍ من واشنطن، على الرغم من نفي مسؤولين رفيعي المستوى في الإدارة الأميركيّة إبلاغَهم مسبقًا بالعمليّة. غير أنّ هؤلاء أوضحوا، في محادثاتٍ مع "هآرتس" ووسائلَ إعلامٍ أخرى، أنّ إسرائيل والولايات المتحدة تنسّقان معًا في ما يتعلّق بالسياسة تجاه "حزب الله".
وفي السياق نفسه، لم تصدر فرنسا أيَّ إدانةٍ للعمليّة، على الرغم من كونها الراعي الغربيَّ الأبرزَ للبنان وأحدَ الأطراف في آليّة التنسيق العسكريّ التي أنشئَت قبل عامٍ للحفاظ على وقف إطلاق النار بين إسرائيل و"حزب الله".
خلالَ الأشهر الأخيرة، بَدَت سياسة الإدارة الأميركيّة وتصريحات كبار مسؤوليها بشأن العلاقات بين لبنانَ وإسرائيل، والتزامات كلّ طرفٍ منهما، متضاربةً ومتقلّبةً. ففي آب/أغسطس، وبعد موافقة الحكومة اللّبنانيّة على الخطة الأميركيّة الهادفة إلى نزع سلاح "حزب الله" بحلول نهاية العام، بالغَ المبعوث الأميركيّ الخاص توم برّاك في إبداء التفاؤل والأمل والدعم للبنان، إذ دعا إسرائيل إلى الردّ على "اليد الممدودة"، أي البدء بتنفيذ ما يترتّب عليها، والانسحاب تدريجيًّا من النقاط الخمس التي تحتلّها داخلَ الأراضي اللّبنانيّة، ووقف هجماتها في العمق اللّبنانيّ، لكنّ شيئًا من ذلك لم يتحقّق.
وعلى الرغم من ذلك، انقلبت لهجة برّاك لاحقًا، وهذه المرّة ضدَّ لبنان. ففي مطلع تشرين الثاني/نوفمبر، وخلال مؤتمر "المعهد الدوليّ للدراسات الاستراتيجيّة" (IISS) في البحرين، وصف برّاك لبنان بأنّه "دولةٌ فاشلة"، وأعرب عن شكوكه في قدرة هذا البلد على نزع سلاح "حزب الله".
إلّا أنّ الدورَ الأميركيَّ في الملفّ اللّبنانيّ تبدّل مجدّدًا بعد تولّي ميشال عيسى منصبَ السفير الرسميّ لواشنطن في بيروت، إذ توقّف برّاك عن متابعة الملفّ وتركَه لعيسى ولمورغان أورتاغوس، التي عادت إلى الساحة اللّبنانيّة قبل بضعة أشهر، إلى جانب عملها في بعثة الولايات المتحدة في الأمم المتّحدة. وفي المقابل، استقال وزير الشؤون الاستراتيجيّة في الحكومة الإسرائيليّة والمقرّب من رئيس الوزراء رون ديرمر، على الأقل رسميًّا، ليصبح الملفّ اللّبنانيّ حاليًّا ضمن نطاق مسؤوليّة القائم بأعمال رئيس مجلس الأمن القوميّ غيل رايخ، والسفير الإسرائيليّ في الولايات المتحدة يحيئيل لايتر.
ويبدو أنّ مقاربةَ واشنطن تجاه لبنان شهدت عددًا من التغييرات في الأشهر الأخيرة، إذ تتبنّى الإدارة الأميركيّة اليوم، كما هو معروف، رؤيةَ رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو، القائمةَ على إمكانيّة "فرض السلام بالقوّة". وبمعنًى آخر، ترى واشنطن أنّه يمكن إجبار الحكومة اللّبنانيّة والجيش اللّبنانيّ على نزع سلاح "حزب الله" من خلال مواصلة الهجمات الإسرائيليّة داخلَ الأراضي اللّبنانيّة، على أمل أن تدفعَهما هذه الضغوط إلى التحرّك.
وعلى الرغم من إدراك خطر توسّع التصعيد الحاليّ وتحَوّله إلى مواجهةٍ أكثرَ خطورةً، ترى الولايات المتحدة سيناريو "متفائلًا" مفاده أنّ هذه الهجمات قد تضع الرئيسَ اللّبنانيّ جوزاف عون أمام خيارَيْن لا ثالثَ لهما، إمّا الذهاب إلى الحرب، وإمّا الدخول في مفاوضاتٍ سياسيّةٍ مع إسرائيل، وصولًا إلى إقامة علاقاتٍ طبيعيّةٍ معها والانضمام إلى "اتفاقيّات أبراهام".
في القدس، يتقاطع هذا التقدير مع الرؤية الإسرائيليّة. فالانسحاب من النقاط الخمس غير مطروحٍ بالنسبة إلى إسرائيل في المرحلة الحاليّة، بالتأكيد ليس قبل أن يظهرَ الجيش اللّبنانيّ نتائجَ ملموسةً على الأرض. ومع ذلك، يظلّ عددٌ من الأسئلة معلّقًا في إطار هذا التصوّر الثنائيّ، من بينها: هل يستطيع الرئيس عون والجيش اللّبنانيّ التحرّكَ بحزمٍ أكبر ضدَّ "حزب الله" من دون المخاطرة بانزلاق البلاد إلى حربٍ أهليّةٍ جديدةٍ؟ وهل يمكن لعون تحمّل الجلوس إلى طاولة مفاوضاتٍ مع إسرائيل، الدولة التي تجمع مختلف التيّارات اللّبنانيّة على العداء لها؟
الفرنسيّون يدركون بدورهم هذه التعقيدات. فمن ناحية، تشعر باريس بالإحباط من وتيرة ونوعيّة عمليات الجيش اللّبنانيّ ضدَّ "حزب الله"، وهي مقتنعةٌ بأنّ هذا الجيش قادرٌ على القيام بالمزيد، على الرغم من ضعفه وقيوده ونقص موارده. ومن ناحيةٍ أخرى، تخشى فرنسا من أن يؤدّي نموذج "الضغط الأقصى" إلى تفجير الاستقرار الهشّ في لبنان، بدلًا من تعزيره.
ومن المتوقَّع أن تزورَ أورتاغوس باريس في الأسابيع المقبلة، حيث ينتظر أن يسمعَ الأميركيّون من نظرائهم الفرنسيّين مقترحاتٍ تشدّد على أنّه لا يمكن الضغط على طرفٍ واحدٍ فقط، من دون الحصول على خطوةٍ مقابلةٍ من الطرف الآخر، مثل قيام إسرائيل بمبادرة حسن نيّة، عبر الانسحاب من إحدى النقاط الخمس. غير أنّ إسرائيل، وفقَ ما تَنقله "هآرتس"، ترفض هذا المقترح في المرحلة الراهنة.
من جهةٍ أخرى، تحاول مصر الاستمرارَ في الحوار مع جميع الأطراف، بمن فيهم الإسرائيليّون، ويبدو كأنّها تبذل جهدًا كبيرًا لمَنع التصعيد. فقد زار وزير الخارجيّة المصريّ بدر عبد العاطي بيروت أمس، بعد يومٍ واحدٍ على اتصال الرئيس المصريّ عبد الفتّاح السيسي بنظيره اللّبنانيّ لتأكيد دعمه له وللبنان. وفي الشهر الماضي، زار رئيس الاستخبارات المصريّة حسن رشاد لبنان، بعد أيّامٍ على زيارةٍ خاطفةٍ لإسرائيل ولقائه نتنياهو. ويرجَّح أن تحاولَ القاهرة استغلالَ نفوذها في الملفّ الغزّي للضغط على إسرائيل، في مسعىً لمواجهة منطق "تحقيق السلام بالقوّة"، إذ تبدو الرسالة المصريّة واضحةً، ومفادها أنّ التحركات العسكريّة وحدَها لن تفضي إلى نتائجَ دبلوماسيّةٍ مستدامةٍ.
ويقول إيتان ياشي، رئيس برنامج الشرق الأوسط في معهد "ميتفيم": "في النهاية، كلّ شيءٍ يَعود إلى الطريق المسدود. إسرائيل تقول: انزعوا سلاحَ حزب الله، ثم ننسحب. الحكومة اللّبنانيّة تقول: انسحبوا، ثم يمكننا نزع سلاح حزب الله. حزب الله يقول: لن ننزعَ سلاحَنا قط، لكن إذا أردتم فتحَ حوارٍ والتوصّلَ إلى تسويةٍ، فعلى إسرائيل الانسحاب أوّلًا. أمّا الأميركيّون والمجتمع الدوليّ، فيقولون للبنان: انزعوا سلاحَ حزب الله أوّلًا، ثم نقدّم لكم المال".
حتى الآن، لم يجد أيّ طرفٍ مخرجًا من هذه الحلقة المفرغة، إلّا أنّ إسرائيل والولايات المتحدة تبدوان وكأنّهما تراهنان على إضعاف "حزب الله" ووضع الرئيس عون أمام "عرضٍ لا يستطيع رفضَه". ويبقى السؤال المفتوح: هل يستطيع عون فعلًا قبولَ هذا العرض، في ظلّ تعقيدات الداخل اللّبنانيّ وتشابكات الإقليم؟