المصدر: النهار
الكاتب: نبيل بو منصف
الخميس 12 كانون الاول 2024 08:47:26
سواء تزامنت الذكرى الـ19 لاستشهاد حبران تويني، أو لم تتزامن مع سقوط أعتى الأنظمة الظلامية التي نذر جبران الردح الأكبر من عمره ومراسه الصحافي والسياسي لمواجهة سيطرته ووصايته واحتلاله في لبنان، كان السؤال يساورنا دوما: هل كانت ثورة جبران واجبة بهذا القدر؟ والحال أن تبدل الظروف في 19 عاما على نحو أفضى في الأشهر الأخيرة وحدها، وقبل أيام حصرية من ذكرى استشهاد جبران، إلى هذا الحدث التاريخي وبهذه الضخامة في سوريا، يقود من أدماه اغتيال جبران إلى التأسي لا على غيابه في رؤية كل ما كافح وواجه وكتب في سبيل تحقيقه يتحقق فقط، وإنما على استهلاك عمر جيل كامل بعد جبران حتى تحقق.
حتما لا يجوز لنا أن نسأل مؤمنا بثورته حتى حدود الشهادة، لماذا لم يردع نفسه عن المضي بعيدا في تلك الحقبة، وإلا لكانت ظلامية القمع والقتل والاحتلال سادت وتمادت عقودا بعد. ولكن من المهم للغاية الآن أن نعيد الاعتبار بالكامل إلى فكر جبران الثائر، ليس فقط في وجه الطغيان والوصاية والاحتلال وقمع الحريات وتشويه صورة لبنان العريق وديموقراطيته العريقة وحرياته المقدسة، وإنما أيضا في مواجهة تكلس وفساد سياسي متأصلين لا يزالان حتى اللحظة متحكمين في لبنان، بصرف النظر عن الزلزال الحربي الذي أصابه في الأشهر الأخيرة كما في سنوات المشهد الكارثي الأخيرة.
كانت، ونكاد نقول لا تزال، ثورة جبران واجبة وحتمية وستبقى في كل لحظة ما دام لبنان عرضة لما هو أخطر مما تعرض له في حقبات سقوط نظام حافظ وبشار الأسد. ولن نخفي أو نحجب حقيقة قاسية ومباشرة إن قلنا إن تضخيم "الهيصة"- ولو أن الاغتباط مبرر- بسقوط نظام بشار وقبله بالتحجيم الكبير لـ"حزب الله" الذي قاد نفسه والبلاد إلى أسوأ المصائر، لن يكون الآن السبيل الأمثل لفكر وتعامل سيادي مع هذا الحدث التاريخي، ما لم يقدم السياديون أنفسهم وبأسرع مما يظنون الدليل على استحقاقهم وأهليتهم هم أيضا لترجمة ثورة سيادية تغييرية تبدأ بهم قبل الاحتفاء بسقوط نظام ظلامي أو انكفاء خصم مستقو آسر لم تقف سطوته عند حدود، فقاد لبنان الى أشد الكوارث.
في الأسابيع الأخيرة من حياته بدأ جبران يعكس ميلا إلى النقد الذاتي لثورة 14 آذار وبعض ما بدأ يشوبها آنذاك تنظيميا وسياسيا وإعلاميا وأداء، إن فرديا وحزبيا أو جماعيا. ظل جبران في فكره الثائر بقوة لا تتراجع سياديا واستقلاليا، يقرن تلك الثورة بالمناداة بتغيير الطبقة السياسية الفاسدة. لا تفارق هذه المزاوجة بين "الثورتين" في فكره، إن صح التعبير، مئات المقالات والمقابلات المثبتة لجبران قبل "ثورة الأرز" وخلالها وبعدها، بما يعكس عمق إيمانه بأن التغيير الداخلي يضاهي، بل يتجاوز بضروراته، التحرر من الوصاية والاحتلال، وإلا عبثا التغرغر بشعارات رنانة ترفع في وجه الخصوم والأعداء ثم تسقط عند أبواب أهل الدار المعنيين بترجمة ما ينادون به على أنفسهم قبل الآخرين.
لسنا ممن يستطيبون السؤال يوم ذكرى الشهيد ماذا كان تراه يقول أو يطلب أو يفعل لو كان لا يزال حيا؟ لكننا نبرر، ويجب أن نبرر تساؤلا كهذا بعد 19 عاما على استشهاد جبران، لأن صاحب الذكرى والشهادة "عاش" هذه المدة في فكر من أوجعهم غيابه كل يوم وكل لحظة وهم يشهدون انسحاق لبنان الذي استشهد من أجله، وإذا بلحظة خيالية في وقائعها ورمزيتها تتزامن مع صعود صورة جبران إلى المشهد يوم ذكرى استشهاده، وقد تحقق الشيء الكثير مما ذهب من أجله بتلك المأساة الدامية على أيدي مجرمين لا بد أن يحل يوم كشفهم … ولعله اقترب حتما كما نؤمن، ونحن أبناء الإيمان!