هل من "غاز" أو "خدعة" في بحر لبنان؟

شكلت الأنباء الواردة عن خلو "البلوك" رقم 9 بجنوب لبنان من الغاز صدمة كبيرة في لبنان، إذ كانت هناك رهانات كبرى على اكتشاف احتياطات مهمة في هذه الرقعة، الأمر الذي فتح جدلاً واسعاً وتشكيكاً حول النتائج السلبية، إذ وضعها البعض في إطار "المؤامرة"، فيما وضعها البعض الآخر في سياق "الحظ" الذي يعاكس البلاد منذ سنوات عدة، في حين أجمع محللون اقتصاديون أن تبخر الرهانات قد يولد نكسة اقتصادية ومزيداً من التوتر في البلاد التي ترزح تحت وطأة أزمات سياسية واقتصادية وأمنية.

وعزز إيجاد النفط في "البلوكات" المجاورة لـ"البلوك" رقم 9 في إسرائيل (كاريش) وقبرص (أفروديت)، الاحتمال بإيجاد كميات أيضاً في "البلوك" اللبناني.

وفي مشهد يذكر بإغلاق "البلوك" رقم 4 في 25 نيسان 2020 لخلوه من الغاز، كشف الصحافي نخلة عضيمة عبر منصة (إكس) عن أن شركة "توتال إنرجيز" الفرنسية توقفت عن عملية الحفر في "البلوك" رقم 9 على عمق 3900 متر بعدما تبين لها عدم وجود كميات تجارية في مكمن "قانا"، وأوضح لـ"اندبندنت عربية" أن العقد الموقع مع "توتال" ينص على الحفر حتى عمق 4350 متراً، إلا أنه بعد الوصول إلى "باب" المكمن تبين عدم وجود آثار لأي اكتشافات هيدروكربونية، ولم يعد هناك من جدوى لمواصلة الحفر كما ينص العقد.

وأكد أن منصة الحفر "ترانس أوشن" (Transocean) العابرة للمحيطات ستغادر لبنان متوجهة إلى قبرص في غضون 10 أيام لبدء أعمال حفر أخرى في مياهها بسبب ارتباطها باستكشافات لصالح شركة "إيني" الإيطالية.

وحتى الآن لم يصدر أي بيان رسمي عن شركة "توتال إنرجيز"، إنما نقلت المعلومات أنه تم إبلاغ المعنيين في وزارة الطاقة بصورة غير رسمية حتى الساعة، إضافة إلى إعلان رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أن وفد شركة "توتال" زاره وأبلغه أن هناك مؤشرات سلبية بشأن استخراج الغاز في "البلوك" رقم 9.

كذلك أبلغت شركة "هاليبرتون" الأميركية، المتعهدة لدى شركة "توتال" بالحفر في مكمن قانا المحتمل، الشركة المشغلة أنها قررت وقف الحفر على عمق 3900 متر، لعدم وجود كميات تجارية في البئر التي يجري حفرها.

تغير الإحداثيات

ووفق المعلومات تحاول جهات رسمية التواصل مع شركة "توتال" لإقناعها بالقيام بعملية حفر جديدة في موقع آخر من المكمن النفطي المفترض، في حين تؤكد مصادر في الشركة على صلة مباشرة بعمليات التنقيب أنه في بداية  تشرين الأول وبعد أسبوعين على بدء عملية التنقيب وصل الحفر إلى عمق يزيد على 3500 متر ولم يعثر على اكتشافات هيدروكربونية، إلا أن الشركة وعن حسن نية ولعدم الاستسلام تذرعت بوجود صخرة يصعب اختراقها، وبدأت الحفر في موقع ثان وتم الوصول إلى النتيجة نفسها.

 

وتكشف بأن كلفة الحفر الاستكشافي تقدر بنحو 130 مليون دولار، ومن ثم ليس بالسهولة الاستمرار بالحفر الاستكشافي في أكثر من ناحية، مشيرة إلى أن ذلك يمكن أن يحدث لو تبين وجود كمية غير تجارية في الاستكشاف الأول حينها يمكن المحاولة مرات عدة إضافية.

 

حقل "ظُهر" المصري

وفي السياق يصر الأستاذ الجامعي المتخصص في شؤون الطاقة، شربل سكاف، على ضرورة استمرار الحفر إلى عمق 4350 متراً المتفق عليه وفق العقد، لأنه باعتقاده أن النتائج قد تنقلب بين متر وآخر، مستنداً إلى تجربة حقل ظُهر في المنطقة الاقتصادية المصرية، حين كان هناك نية بوقف الأعمال، لكن بعد حفر نحو 50 متراً إضافياً وجد أحد أكبر مكامن النفط في البحر المتوسط.

وبالنسبة إلى الحقل المشترك بين لبنان وإسرائيل، يوضح سكاف أنه للتأكد من وجود غاز في كل جوانبه، يجب من الزاوية العلمية الحفر ليتبين ما إذا كان فيه الغاز مشتركاً وتم سحبه، علماً أنه إذا وجد الغاز في "البلوك" رقم 9، فإن لإسرائيل حصة فيه، وقد عقدت اتفاقاً مع شركة "توتال" في هذا الشأن.

 

الأخطار الأمنية

من جانبها، كشفت المتخصصة في شؤون الطاقة المحامية كريستينا أبو حيدر عن أن السلطة اللبنانية رفعت سقف التوقعات حينها بوجود كميات ضخمة من الغاز الطبيعي بهدف تمرير اتفاق ترسيم الحدود، إلا أنها اعتبرت أنه في حال استكمل الاستكشاف يمكن أن يتبين وجود كميات من "الغاز" في رقعة أخرى من "البلوك" نفسه.

وبرأيها يكمن التحدي بأن تستكمل "توتال" عملها وتنتقل إلى بئر أخرى، مشيرة إلى أن نفقات الحفر الاستكشافي تكون على عاتق الشركات المتعهدة، إلا أن الأوضاع الأمنية المتوترة لا تشجع الشركات على المخاطرة.

 

صفقة "حزب الله" وإيران

وقبل اتفاق ترسيم الحدود مع إسرائيل في 27 تشرين الأول 2022، أطلقت السلطات السياسية حملة تعهدات ووعود للرأي العام اللبناني بأن هناك تأكيداً بوجود كميات تجارية هائلة ستسهم في إعادة أموال المودعين المحتجزة لدى المصارف وإعادة تحريك عجلة الاقتصاد، إضافة إلى تأمين الكهرباء بعد تحويل المعامل للعمل على الغاز بدل الفيول.

ووفق الأكاديمية والباحثة في الاقتصاد السياسي زينة منصور فإن تلك الحملات الترويجية لم تكن سوى تسويق لترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل وتغطية للتنازل عن جزء من المياه اللبنانية وما تحمله من مخزون غازي ونفطي، يمكن التغاضي عنه إذا ما بدأنا باستخراج الغاز سريعاً.

ولفتت إلى أن "حزب الله" قبِل بالتنازل عن تلك الرقعة البحرية الواسعة لمصلحة إسرائيل، مقابل صفقة أجرتها إيران مع دول غربية التي تغض الطرف عن تنفيذ القرار الدولي 1559 الذي ينص على نزع سلاح الميليشيات وضمنها سلاح الحزب، مشيرة إلى أن الثروة البحرية باتت في الجزء الذي حصلت عليه إسرائيل وحرم منه لبنان.

 

تدابير بحق "توتال"

في حين اعتبرت المتخصصة في مجال النفط والغاز في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لوري هايتايان أن سيناريو "البلوك" رقم 4 مقابل ساحل البترون يتكرر من جديد، لافتة إلى أنه في حال الشكوك في نية "توتال" بالبحث الجدي، "على الدولة أن تتخذ تدابير في حقها"، متسائلة إذا ما كان المعنيون من الجهات الرسمية موجودين للاطلاع على ما يحصل في عمليات الحفر.

وأشارت إلى أنه في الأساس كان مستغرباً وجود أرقام وتوقعات كبيرة من قبل المسؤولين في الدولة قبل أن تبدأ عمليات الاستكشاف، معتبرة أننا وقعنا في الخطأ نفسه وهو "خطأ تقدير التوقعات"، في حين بدأ الحديث عن "خدعة"، مشددة على أن التاريخ سيكشف لاحقاً عما إذا كانت هناك أسباب سياسية أم نتائج واقعية.

المؤامرة على لبنان

وتوقف بعض المحللين والسياسيين أمام هذه الأنباء، مستغربين التوقيت بالتزامن مع الأحداث والتطورات الجارية في قطاع غزة والتوترات على الحدود اللبنانية - الإسرائيلية، إذ تساءل بعضهم عما إذا كان هناك ضغوط دولية على لبنان ربطاً بمشاركة "حزب الله" بالأحداث.

في حين يرى متابعون أن الحديث عن "خدعة" أو "مؤامرة" يبدو غير منطقي، وأن المشككين يستغلون توقيت التسريبات، في محاولة لإيهام الناس بذلك والتنصل من مسؤوليات الشروط التي قبل بها لبنان في ترسيم حدوده البحرية.

وقال النائب قاسم هاشم عضو كتلة "التنمية والتحرير" عن حركة "أمل"، في منشور عبر منصة "إكس"، إن "ما أثير حول البلوك 9 يبدو في إطار الضغط على لبنان والتهويل النفسي بخاصة أن الشركة أميركية (أي هاليبرتون المتعهدة لدى توتال)، وقبل الوصول إلى العمق المتفق عليه كانت الإشارة السلبية"، مشيراً إلى أن "المطلوب حفر بئر استكشافية أخرى بالبلوك ذاته وأكثر من ذلك، ما دام الإسرائيلي وصل إلى الغاز في البلوك المحاذي فإن منطق الأمور يفترض أن يحتوي البلوك 9 على غاز".