المصدر: المدن
الكاتب: بتول يزبك
الجمعة 31 كانون الثاني 2025 11:31:24
مرةً أخرى، تتبدّد آمال أكثر المراقبين تفاؤلًا أمام تعقيدات المشهد السّياسيّ، إذ يبدو أنّ تشكيل الحكومة الأولى في عهد الرئيس جوزاف عون لن يكون وشيكًا، في ظلّ التعثّر المستمرّ الذي تؤكّده التطورات الأخيرة في هذا الملف الشائك. فعلى الرغم من المؤشرات الإيجابيّة الّتي كانت توحي بقرب إعلان التشكيلة الوزاريّة، عاد التعقيد ليطغى على المشهد، نتيجة تعذّر توصل الرئيس المكلّف نواف سلام إلى تفاهمٍ نهائيّ مع القوى السّياسيّة الفاعلة، ولا سيّما حول عقدة الحصة الشيعية بما فيها وزارة المالية، الّتي باتت تشكّل حجر عثرة أمام اكتمال المشاورات.
وفي هذا السّياق، كشفت مصادر مطّلعة لـ"المدن" أن ثنائي حزب الله وحركة أمل، قدّم لائحة أسماءٍ لتولّي الحقائب، غير أنّها لم تلقَ قبولًا لدى الرئيس المكلّف، الذي طلب اقتراح أسماءٍ جديدة للنظر فيها مجدّدًا، ويُنتظر تسليمها في السّاعات المقبلة. وفي ظلّ هذه المراوحة، تبقى أولوية تشكيل الحكومة المسألة الأكثر إلحاحًا، كي يتمكّن العهد الجديد من الانطلاق بفعاليةٍ وتحقيق الحدّ الأدنى من التوقعات والطموحات. والحال، أنّه أمام الرئيس المكلّف نواف سلام خياراتٌ متعدّدة، لكلٍّ منها تحدياته وحساباته السّياسيّة. فهل يمضي في خيار تشكيل حكومة "أمر واقع"، تضمّ شخصيات مستقلة عن الأحزاب وتعتمد على الزخم الشعبيّ والدعم الدوليّ، ما قد يجعل حجب الثقّة عنها أمرًا بالغ الصعوبة؟ أم أنّ التوازنات السّياسيّة تفرض نفسها، ما يدفع نحو حكومةٍ تُمثّل القوى السّياسيّة الفاعلة وتعكس توازنات المجلس النيابيّ، ولو على حساب التطلعات الشعبيّة المنتظرة من العهد الجديد؟
حكومة أمرٍ واقع؟
بعد اجتماعه مع الرئيس جوزاف عون في قصر بعبدا، شدّد سلام على أنّه لن يتراجع عن المعايير التّي وضعها لتشكيل حكومته، قائلًا: "لن أتنازل عن أيٍّ من المعايير التّي حدّدتها منذ اليوم الأوّل: حكومةٌ قائمةٌ على مبدأ الفصل بين البرلمان والحكومة، مكوّنةٌ من شخصياتٍ وطنيّة ذات كفاءة عالية، دون تمثيلٍ للأحزاب السّياسيّة". هذا الإصرار يؤكد أنّ العقبات لا تزال قائمة، فهل تنجح معادلة "الأمر الواقع"؟
ثمّة من يرى في التطورات الخارجيّة فرصة لتشكيل حكومة "أمر واقع"، تستفيد من المعطيات الجديدة. فالعهد الجديد يحتاج إلى حكومة تُحدث صدمةً إيجابيّة، بدلًا من العودة إلى الآليات التقليديّة الّتي غالبًا ما تعرّض الحكومات للشلّل. لكن ماذا لو مضى سلام بهذا الخيار؟ السيناريوهات المحتملة متعددة: إمّا أن ترضخ القوى السّياسيّة للأمر الواقع وتمنح الثقّة للحكومة، أو أن تُحجب عنها الثقّة، ما سيجعلها حكومة تصريف أعمال ويدفع الرئيس عون إلى استشاراتٍ نيابيّةٍ جديدة.
مصادر في حزب "القوات اللبنانية" تؤكد أنّ التغيّير في ميزان القوى هو الذي أتاح وصول نواف سلام إلى رئاسة الحكومة وجوزاف عون إلى الرئاسة، بالمرتبة الأولى. وترى أنّ هذا التحوّل يجب أنّ ينعكس على تشكيل الحكومة، بحيث لا تُعاد الصياغة وفق المعادلات السّابقة. فحزب الله لم يعد قادرًا على فرض إرادته كما في السّابق، ما يمنح الحكومة هامشًا أكبر للتحرك. في حديثها إلى "المدن" تُشير هذه المصادر إلى أن هناك عقبات أساسيّة أمام هذه الحكومة، وأبرزها التحوّل في موازين القوى، ومع هذا التحوّل، لا يجوز أن تُعاد صياغة الأمور بنفس الطريقة الّتي كانت عليها قبل هذا التغيير، وإّلا لن نكون قد حققنا أي تقدّم.
وتقول المصادر: "في هذه الحالة، يجب أن نسأل: ما جدوى هذه الحكومة إذا كان الطرف المسيطر يسيطر على خمس حقائب وزاريّة، إضافة إلى وزارة الماليّة؟ وعندما يُطلب تعيين مدير عام، يطرحون مسألة التوازن الطائفيّ والميثاقيّة، وعندما يُطلب تنفيذ قرار معين، يستخدمون نفس الذريعة، وحتى عند الحديث عن نشر الجيش على الحدود بين لبنان وسوريا، سوف تُستخدم الحجة ذاتها".
عقدّة التوزير
من جهته، يُشير النائب إبراهيم منيمنة لـ"المدن" إلى أنّ "الحكومة الّتي تكون خارج إطار المحاصّصة هي حكومة تتوّجه إلى اللّبنانيين، بمعنى أنّها تنطلق من كونها أمرًا واقعًا، حكومة إصلاحيّة حقيقيّة تضمّ فريقًا متجانسًا قادرًا على اتخاذ قراراتٍ سريعة وصعبة لإجراء الإصلاحات وإنقاذ البلد. أعتقد أن هذا هو الأساس اليوم، وهو بالفعل ما ينطلق منه الرئيس المكلّف. في الوقت نفسه، يحاول أنّ يكون شاملًا ويشرك جميع القوى السّياسيّة في هذه العملية، لكن من الواضح أنّ هناك عراقيل توضع في طريقه، انطلاقًا من ممارسات سابقة اعتادت على التعطيل، وهذا يشكل تحديًّا أمامه. لكن إذا قرّر الرئيس سلام المضي قدمًا بحكومة أمر واقع، فأنا أسميها حكومة إصلاحيّة بالدرجة الأولى، وهذا ما ينتظره اللّبنانيون".
وفي حال تشكيل مثل هذه الحكومة، يعتبر منيمنة أنّه "على القوى السّياسيّة أنّ تتحمّل مسؤوليتها أمام الرأي العام. فإذا قدّم الرئيس حكومة متكاملة بشخصياتٍ مقبولة وبرنامج عمل وبيان وزاريّ يعكس تطلعات اللّبنانيين، فهل سيمنعون عنها الثقّة فقط لأنها لا تتضمن تمثيلهم المباشر؟".
ولا يمكن إغفال البعد الاقتصاديّ في ملف تشكيل الحكومة، فلبنان يعيش واحدة من أسوأ أزماته الاقتصاديّة في التاريخ الحديث، وسط انهيار سعر صرف الليرة وارتفاع معدلات التضخم. المؤسّسات الماليّة الدوليّة تشترط تنفيذ إصلاحاتٍ جذريّة قبل تقديم أي مساعداتٍ جديدة، وهذا يفرض تحدياتٍ إضافيّة أمام رئيس الحكومة المكلّف. في هذا السّياق، تتزايد الضغوط على نواف سلام للإسراع في تشكيل حكومة قادرة على تنفيذ الإصلاحات المطلوبة. فالوقت ليس في صالح لبنان، وأي تأخير إضافيّ قد يفاقم الأوضاع، ويدفع البلاد نحو مزيد من الفوضى والانهيار. وهنا يؤكد منمينة: "برأيي، لا بد أن تكون الحكومة سريعة التشكيل، ويُفضل ألا نضيع الزخم المتاح للرئيس سلام، حيث يبدو أن بعض الأطراف تحاول استهلاك الوقت لإضعاف هذا الزخم وإحداث بلبلة عبر حملات تضليل وضغط إعلامي، مما يؤدي إلى إرباك الرئيس المكلف. لكن، رغم هذه التحديات، أعتقد أن المبادرة لا تزال قائمة".
من جهتها، تعتقد مصادر القوّات أنّه ينبغي أن تتشكل الحكومة بحيث لا يكون هناك أكثر من وزير شيعي واحد غير تابع لهذا الفريق، على أن يتولى وزارة المالية، مما ينزع منهم أداة التعطيل التي كانوا يستخدمونها لتعطيل القرارات الكبرى، وبذلك تُحلّ عقدة الوقت. واستشرفت المصادر أنّ فرض وزير شيعيّ تابع للثنائيّ سيؤدي إلى ولادة حكومةٍ "مشلّولة" وقابلة للانفجار عند أي منعطف. قائلةً: "فالفريق الآخر يعمل وفق قاعدة إما أن يفرض خياراته أو يعطلّ كل شيء. فلماذا نتحمل هذا الخطر؟ المطلوب هو وضع معايير موحدة عند تشكيل الحكومة، بحيث لا يتم التعامل بازدواجيّة مع القوى السّياسيّة. فهناك قوى تلجأ إلى الشارع والتهديد، وأخرى تعتمد على الدستور والقانون، ولا يجوز مساواتهما".
زخم دوليّ
فيما يخصّ السّاحة الدوليّة، يرى مراقبون أنّه ثمّة ديناميكيّة متزايدة تدفع نحو دعم تشكيل الحكومة الجديدة، وهو ما قد يوفر شبكة أمانٍ لخيارات حكومة الأمر الواقع. السّؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل سنشهد حكومة تتمكن من إقامة توازن بين القوى، وتعيد الأمور إلى نصابها الصحيح في ظلّ المستجدّات والتوزانات الداخليّة وتحديدًا بعد الحرب الأخيرة؟ وخصوصًا بالنظر لكون الحزب لم يعد قادرًا على فرض إرادته بالسهولة التي اعتاد عليها، وحفظ تمثيله ومشاركته في الحكومة دون أن يمتلك القدرة على شلّها تمامًا؟
تبقى الآمال معقودة على قدرة الرئيس المكلّف في إدارة هذه التوازنات بحنكة، والتجاوز الذكيّ للعوائق السّياسيّة التّي تعترض طريقه. فهل سيتحقق اختراق حقيقيّ في المشهد السياسيّ، أم أنّ لبنان سيظل في دائرة التعطيل والمراوحة؟