المصدر: الديار
الثلاثاء 16 نيسان 2024 07:53:35
"خرجتُ من السجن بإخلاء سبيل، ولم تتم محاكمتي حتى الآن"، بهذه الكلمات تبدأ هناء بسرد قصة توقيفها في أحد السجون اللبنانية، وتُضيف: " قضيت شهرين داخل السجن بتهمة السرقة دون محاكمة، الحياة داخله ليست مثالية رغم معاملة الإداريين الجيدة، الخدمات بداخله بسيطة جدًا، عدا عن الضغط النفسي من الانتظار وجهل المصير، كنّا نمكث عشر نساء لساعات طويلة داخل غرفة واحدة مقفلة، كان يغلبني شعور الضيق والحسرة والظلم والخوف، وكنت أتفادى أيّة مواجهة مع السجينات كي لا أقع في مشكلة إضافية ويطول توقيفي".
وبحسرة تقول هناء: "بعد إخلاء سبيلي وفي فترة انتظار المحاكمة عشت ما هو أسوأ، كنت أشعر بأن الحياة ستنتهي قبل صدور الحكم، وأكثر ما آلمني هي نظرات الناس وابتعادهم عني، عدا عن تأثر أولادي سلبًا بما حصل معي، حتى المحيطين بي عاملوني بشكل سيء وتعرضت لجميع أنواع الضغوط، ما دفع بي إلى تغيير مكان سكني والانتقال إلى مكان جديد على كل المستويات".
قصة هناء تمثلّ حال عشرات أو مئات السجينات اللواتي، ولاسباب مختلفة، وجدن أنفسهن موقوفات لفترات طويلة دون محاكمة، الأمر الذي انعكس بشكل سلبي عليهنّ جسديًا ونفسيًا واجتماعيًا.
يُعدّ احتجاز النساء دون إتمام محاكمتهنّ انتهاكّا واضحًا لكل القوانين والشرعات الدولية التي تكفل حقوق الإنسان بشكلٍ عام، والسجناء بشكلٍ خاص.
الصعوبات وإعادة التأهيل
لا تتوقف معاناة النساء السجينات في لبنان عند حد ما قالته هناء، فالحكايات لا تُروى دائما، لأكثر من مرة حاولنا التواصل مع سجينات سابقات، لكنّهن رفضن سرد قصصهن في العلن لاعتبارات كثيرة منها اجتماعية وعائلية، أما فاطمة بدره، رئيسة "الجمعية اللبنانية الخيرية للإصلاح والتأهيل" فتشهد على معاناتهن.
تشرح بدره عن تأثير السجن على حياة إحداهنّ بعد خروجها مؤخرًا لانقضاء محكوميتها، فتقول: "لم يتقبلها المجتمع وحُرمت من إيجاد فرصة عمل بسبب فترة توقيفها الطويلة التي ساهمت في زيادة معاناتها، وكانت بحاجة ماسّة للدعم النفسي والاجتماعي ولتعلّم مهارات الحياة والعمل، هذه حال العديد من السجينات اللواتي يفقدن الحماية المجتمعية والدعم من المحيط، خاصة بعد قضاء فترات طويلة خلف القضبان".
تنطلق بدره من قصة هذه السجينة، لتؤكد أن النساء يتعرضن لضغوط نفسية واجتماعية داخل السجن وخارجه، فهن يدخلن السجن ولا يعرفن ما ينتظرهن من ظروف توقيف سيئة، إلى تراجع الخدمات وابتعادهن عن العائلة، فضلاً عن اختلاطهن بنساء غرباء، كلُّ ذلك يخلق لديهنَّ شعوراً بالقهر والتوتر وينعكس سلبًا على حياتهن اليومية. من هنا تبرز أهمية التأهيل الذي نقوم به منذ سنوات داخل السجون وخارجها لمساعدة السجينات على الإندماج في المجتمع، ولتحضيرهنًّ على مواجهة تحديّاته".
الأرقام الرسمية للسجينات
هذه الحكايات هي غيضٌ من فيض لمعاناة السجينات اللواتي يقضي معظمهنّ فترات طويلة في السجن من دون محاكمة، والأرقام الرسمية خير دليل على هذا الواقع.
وبحسب مصدر أمني متابع لوضع السجون، فإن عدد النساء السجينات في السجون اللبنانية يبلغ 275 امرأة، منهنّ 216 دون محاكمة، ويتوزع هذا العدد من السيدات على عدّة سجون وهو على الشكل الآتي:
وعليه فإن هذه الأرقام تعكس الواقع القضائي القاسي الذي تواجهه السجينات، مما يؤكد على ضرورة معالجة التحديات بشكل فوري وفعّال.
تأخير المحاكمات... أسباب وانعكاسات
يُعد إجراء المحاكمات حق من حقوق السجينات، وأي تأخير في إتمامها يؤدي حتما إلى آثار سلبية جسيمة على حياة السجينات، وهذا ما أكده رئيس "جمعية عدل ورحمة" الأب نجيب بعقليني، شارحا مدى التأثير المباشر للتأخر في المحاكمات على الحياة داخل السجون، فيقول: "يعود هذا التأخير لأكثر من سبب، وقد تفاقم الوضع في ظلّ الأزمة المالية والإقتصادية الحالية، فالقضاة اعتكفوا لأشهر لتحقيق مطالبهم، والمحاكم تفتقر أساسا للتجهيزات الأولية والأساسية التي تخولهم إنجاز مهماتهم والإسراع في المحاكمات، هذا التأخير يسهم بفصل السجينات عن مجتمعهنّ وعائلاتهنّ وحتى أعمالهنّ".
هذا الواقع، بحسب بعقليني، "يشكل انتهاكًا لحقوق الدفاع عن النفس، ويؤدي إلى كتم أصواتهن وتفاقم الظلم. وبالتالي فإنّ تقاعس المسؤولين عن القيام بواجباتهم وغياب المحاكمات العادلة، قد يؤدي في بعض الأحيان إلى ردود فعل سلبية من قبل الموقوفات".
إن كان الخلل الذي أصاب النظام القضائي نتيجة اعتكاف القضاة وإضراب المساعدين، يشكل سببًا أساسيًا في تأخير المحاكمات لكنه ليس الوحيد، فالأزمة الاقتصادية أرخت بثقلها على القوى الأمنية التي تعطّل عدد كبير من آلياتها وتعذّر أو تأخّر إصلاحها نتيجة الضائقة المادية، مما أدّى في كثير من الأحيان إلى تعذّر سوق الموقوفات وبطبيعة الحال إلى تأخر المحاكمات بحسب مصادر أمنية. هذا فضلاً عن جائحة كورونا التي أدت إلى تعليق كافة الجلسات القضائية وتحويل بعضها إلى جلسات عبر "الفيديو" مما أبطأ السير بالمحاكمات، بالنتيجة ارتفعت نسبة الموقوفات غير المحكومات إلى أكثر من 80% وزادت الأعباء على العناصر الأمنية المسؤولة عن إدارة السجون.
وفي هذا السياق، ترى المصادر الأمنية أن الحلول متاحة لتخفيف الضغط عن النظام القضائي والقوى الأمنية ولصون حقوق السجناء، ومن أبرزها إصدار عفو عام أو خاص، هذا الأمر إذا أُقرّ وطبّق إلى جانب لوائح تسهيل الحكم أو تسريع المحاكمات سيخفّف حكما من الاكتظاظ في السجون، ويؤمّن حق السجناء في التقاضي.
القوانين الدولية تكفل حماية السجناء
بكافة الأحوال وأيًا تكن الأسباب المؤدية لخلل نظام السجون في لبنان، فإنه ثمّة مواثيق دولية ومبادئ سامية تصون حقوق الإنسان، وتحدد كيفية معاملة السجناء وحمايتهم. إذ تنص قواعد الأمم المتحدة النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء وقواعد نيلسون مانديلا A/RES/70/175 تحديدًا في المادة 111 أن السجين غير المحاكم يفترض أنه بريء ويعامل على هذا الأساس ويتمتع السجناء الموقوفون أو المحتجزون رهن المحاكمة بنظام معاملة خاص.
كما تنص القاعدة الرابعة إلى أن عقوبة الحبس وغيرها من تدابير حرمان الأشخاص من حرِّيتهم بصفة أساسية، ترمي إلى حماية المجتمع من الجريمة، والحدِّ من حالات معاودة الإجرام. ولا سبيل إلى تحقيق هذين الغرضين إلاَّ إذا استُخدمت فترة الحبس للوصول، حتى أقصى مدى مستطاع، إلى ضمان إعادة إدماج أولئك الأشخاص في المجتمع بعد إطلاق سراحهم، بحيث يتمكَّنون من العيش معتمدين على أنفسهم في ظلِّ احترام القانون.
وتضيف المادة، سعيًا إلى تحقيق ذلك الغرض، ينبغي لإدارات السجون والسلطات المختصَّة أن توفِّر التعليم والتدريب المهني والعمل، فضلاً عن الأشكال الأخرى من المساعدة المناسبة والمتاحة، بما في ذلك أشكال المساعدة ذات الطابع الإصلاحي والأخلاقي والروحي والاجتماعي والصحي والرياضي. وينبغي تقديم جميع هذه البرامج والأنشطة والخدمات بما يتماشى مع مقتضيات المعاملة الفردية للسجناء.
بناءً عليه، تتبيّن أهمية تطبيق القانون بشكل سريع وفعّال لضمان حقوق الإنسان والتخفيف من العبء النفسي والاجتماعي- والعملي على السجناء، خاصة وأن لبنان منضم إلى العهد الدولي للحقوق السياسية والإجتماعية الذي يحدّد حقوق السجناء فهل سيتقدم خطوة تجاه الإصلاح في السجون وبذل الجهد اللازم لتحسين ظروف حياة السجناء؟