المصدر: جريدة الحرة
الكاتب: شليطا بو طانيوس
الجمعة 20 حزيران 2025 08:52:29
في ظل التوترات الإقليمية المتصاعدة، خاصة بعد اندلاع الحرب الأخيرة بين إسرائيل وإيران، وما يُتوقع أن يتبعها من تطورات قد تشمل تدخلات دولية، وفي طليعتها الولايات المتحدة الأميركية، يعود الخوف ليخيّم مجددًا على اللبنانيين، خصوصًا في ظل هشاشة الوضع السياسي والاقتصادي في البلاد.
فالقلق كبير من أي انزلاق أو تدخّل قد يُدخل لبنان في أتون صراع إقليمي مدمر، ويفتح أبوابًا جديدة على الفوضى والانهيار. وهنا يُطرح سؤال جوهري: هل سينجرّ لبنان إلى هذا الصراع ويصبح طرفًا من الأطراف المتنازعة؟ أم أن اللبنانيين سيختارون الالتزام بمبدأ “لبنان أولًا”، ويقرّرون اعتماد خيار الحياد، تفاديًا لحرب عبثية لا ناقة لهم فيها ولا جمل؟
لقد أثبت التاريخ الحديث والمعاصر للبنان أن البلاد دفعت ثمن انخراطها في صراعات الآخرين. فمنذ إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920 تحت الانتداب الفرنسي، ومرورًا بفترة الحرب العالمية الثانية، كان لبنان مجبرًا على التأقلم مع التوازنات العالميّة التي تتأرجح بين المصالح الفرنسية والبريطانية.
وبعد نيل الاستقلال عام 1943، دخل لبنان في مرحلة من التوازن الهش بين مكوناته الطائفية، خاصة مع تصاعد المد الناصري في خمسينات القرن الماضي، والتي بلغت ذروتها عام 1958 حين اندلع تمرد مسلح داخليّ نُصرة للوحدة العربيّة، كاد يطيح بالنظام السياسي القائم.
ومع تزايد العمليات الفدائية الفلسطينية ضد إسرائيل انطلاقًا من جنوب لبنان، بعد إقرار اتفاق القاهرة عام 1969، فقد لبنان تدريجيًا سيادته على بعض مناطقه، ودخل في صراع عسكريّ مع إسرائيل لم تنته فصولها حتى اليوم.
ومع اندلاع الحرب اللبنانية عام 1975، تحوّل لبنان إلى ساحة حرب عسكرية وأمنية واستخباراتية، تدخّل فيها السّوري، والإسرائيلي، والإيراني، والأميركيّ، والسوفياتيّ، دعمًا للأطراف اللبنانيّة المتنازعة، كلّ بحسب مصالحه.
وبعد انتهاء الحرب أخضع لبنان للاحتلال السوري ما أدخله في هذا المحور السياسي حتى عام 2005، حيث شكّل اغتيال الرئيس رفيق الحريري بداية تحولات جديدة، تبعها خروج الجيش السوري من لبنان، وتزايد الانقسام الداخلي بين محوري 8 و14 آذار، وعودة الاصطفافات الإقليمية من جديد.
ثمّ جاءت حرب تموز 2006 بين حزب الله وإسرائيل لتقلب موازين القوى من جديد. ومع اندلاع الربيع العربي والحرب في سوريا، عاد التورط اللبناني في المحاور، من خلال مشاركة بعض اللبنانيين في القتال في سوريا دعمًا للأطراف المتنازعة.
ومع انفجار الأزمة الاقتصادية منذ عام 2019، وانهيار النظام المصرفي، وانفجار مرفأ بيروت عام 2020، والانخراط في حرب غزة عام 2024، هل ما زال لبنان يملك أي هامش لمزيد من المغامرات أو التورط في نزاعات الآخرين ؟ هل سيعيد لبنان تكرار سيناريوهات الماضي؟ وهل سيدخل مجددًا لعبة المحاور؟ أم آن الأوان لاستخلاص العبر؟
في هذا السياق، يبرز خيار الحياد، ليس كترف سياسي أو شعار إعلامي، بل كخيار وجودي ومصيري. فالحياة السياسية في لبنان، واستقراره، ومستقبله الاقتصادي والاجتماعي، كلها باتت رهينة قرار واحد: إما الانخراط في النزاعات، أو تبنّي الحياد الذي يُنقذ البلاد من الانهيار.
وهنا لا بدّ من العودة إلى المبادرة التي أطلقها البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، والتي دعا فيها إلى “الحياد” كضمانة لوحدة لبنان وسلمه الأهلي. فالحياد، بحسب الراعي، “هو عقد الاستقرار، بعد عقدي الوجود والسيادة”.
فالحياد لا يعني المسايرة ولا الانعزال، بل يعني فقط أن يبقى لبنان بمنأى عن حروب الآخرين وصراعاتهم. وهذا المفهوم يتقاطع مع الشعار التاريخي الذي أطلقه الرئيس الشهيد بشير الجميّل: “لبنان أولًا”، وهو الشعار نفسه الذي عاد وتبناه قسم كبير من اللبنانيين، والذي يشكل حجر الزاوية في بناء وطن قابل للحياة، وذو هوية مستقلة وسيادة كاملة.
ولعل المثال الأبرز على فعالية هذا الخيار هو سويسرا، التي تبنّت مبدأ الحياد في مؤتمر فيينا عام 1815، وتم الاعتراف بها كدولة محايدة في القانون الدولي. فسويسرا، رغم وقوعها في قلب أوروبا المشتعلة تاريخيًا، بقيت بمنأى عن الحروب، واستطاعت أن تحقّق الأمن والازدهار، لا بفضل قوتها العسكرية، بل بفضل حيادها.
لبنان… هذا الوطن الصغير، يحتاج فرصة للحياة، فرصة ليعود وطنًا لجميع أبنائه، لا رهينة سلاح أو محور. فرصة ليعود مركز جذب عربي ودولي، ومنارة ثقافية وسياحية واقتصادية، كما كان يومًا حين لُقّب بـ”سويسرا الشرق”.
لكن هذه الفرصة تفرض علينا قرار: “الحياد”. وأن نقول بصوت لبنانيّ واحد: “لبنان أوًلًا، لبنان أوًلًا، لبنان أوًلًا “… فإما أن نكون بلدًا محايدًا، حرًا، مزدهرًا، أو أن نظل ورقةً ممزقةً في مهبّ الريح!