وصل المازوت ورحل لبنان

كتب فاروق يوسف في العرب اللندنية: 

لا يُنسى منظر الأهالي في الشوارع وهم يلوحون بغبطة ترحيبا بقافلة المازوت الإيراني. أول الغيث هذا. صار اللبنانيون ينظرون إلى السماء بعد أن كانوا ينظرون من خلالها يوم كان لبنان قطعة منها.

طلب حزب الله من جمهوره بأن لا يحتفل بهذا اليوم العظيم. غير أن الناس خرجت تلقائيا من بيوتها فرحا. لم يزينوا الشوارع. لم يُرفع الأذان في المساجد ولم تُدق أجراس الكنائس. فصناع الحدث كانوا يكملون مسيرتهم الجليلة في خدمة الوطن، لذلك فإنهم لا ينتظرون ثناء من أحد.

أحرجتهم فرحة الشعب الذي سيزين أبواب بيوته بالمازوت تخليدا لهذا اليوم العظيم. لقد انتظرنا طويلا لحظة النصر هذه. كان أجدادنا الفينيقيون قد علمونا متى يجب أن نطفئ النار لكي لا تفسد الطبخة.

تلك معادلة لها صلة لينة بالمازوت الذي وصل أخيرا كالبشارة.

ليس لشجرة الأرز أي معنى ما لم يسل المازوت في أنابيب أرواحنا. إنه دم القصائد التي كتبها سعيد عقل والأخوان رحباني وميشيل طراد وأنسي الحاج ويوسف الخال وشوقي أبوشقرا من أجل أن يمشي اللبناني محلقا بغروره وتعاليه وأنفته من غير أن يلتفت إلى القبور.

تلك واحدة من حكايات اللبنانيين الذين ارتفع بهم الشعر إلى النجوم وهبط بهم حزب الله إلى جحور الفئران. ولكن المازوت الإيراني وقد وصل مزينا بصور المنقذين الثلاثة، علي خامنئي وبشار الأسد وحسن نصرالله، أولئك هم صانعو المصير ونافخو الروح في الجثة، له حكاية أخرى. في اللحظة المناسبة وهي لحظة التاريخ شمر سيد المقاومة عن ذراعيه وقال “لبيك يا شعبي” فجرت أنهار المازوت للتذكير بأنهار اللبن والخمر والعسل التي تجري في مكان آخر. يضع بعض اللبنانيين أيديهم على قلوبهم مخافة أن يكون المازوت الإيراني شبيها بنترات الأمونيوم التي كانت سبب الكارثة التي ضربت الجزء التاريخي من بيروت.

هل جلبوا المازوت لنطبخ أم ليطبخونا به؟

ما من حديث لبناني يخلو من الطبخ، حتى لو كان ذلك الحديث سياسيا. ولكن ما معنى السياسة في لبنان؟ هي طبخة صار على اللبنانيين أن يهضموها. إن كانت صالحة فالعالم كله يصغر أمام لبنان وإن كانت فاسدة فعلى الشعب أن يتمتع بشيء من الديمقراطية لكي يقبل بالحلول الفاشلة. كان لبنان دائما حقل تجارب.

لذلك فإن حزب الله وقد تحققت له الهيمنة الكاملة قرر أن يوقف تلك التجارب ويهدم المختبر على العاملين فيه. وخيرا فعل.

اللبنانيون فشلوا في استعادة لبنان ما قبل الحرب الأهلية وهم إذ يجرون ذيول هزيمتهم ليس لديهم غير اتفاق الطائف الذي صار نسخة مزورة عن ميثاق دولتهم. فهم طائفيون قبل الطائف وبعده وبعد أن قرر حزب الله أن ينسف الطائف. سيُقال إن اللبنانيين قد غُلبوا على أمرهم. ذلك ليس صحيحا. الصحيح أن اللبنانيين خدعوا بعضهم البعض الآخر بعناوين كثيرة، كانت المقاومة أبرزها.

اقترح أحد الشعراء اللبنانيين أن يتخلى حزب الله عن سلاحه للدولة ويتفرغ لبيع المازوت. هي تجارة رابحة في انتظار قرار إيران بغلق حدود الجنوب اللبناني مع إسرائيل. ستكون وظيفة مريحة. فلبنان وقع ولم يعد ممكنا إنقاذه كدولة. صار التفكير في شعبه باعتباره حالة إنسانية معروضة في سوق المساعدات هو الأقرب إلى الواقع. ذلك واقع هو الصورة المثالية لما يكون عليه لبنان حين يخضع للولي الفقيه. ومَن زار الضاحية الجنوبية ببيروت لا بد أن تتشكل لديه فكرة عن لبنان المستقبل. إنه الرثاثة بكل معانيها.

لنعد إلى المازوت. الشعب في بعلبك خرج مبتهجا. باخوس خرج معهم وهو الذي صار يخشى أن يُمزج خمره بالمازوت. سيكون مضحكا أن نفكر بالإمبراطور الروماني هادريان الذي لا يزال ينتظر في المتحف نبأ وصول المازوت. كم كان لبنان صغيرا. فكيف كان قطعة من السماء؟ ألا يشعر قدموس وهو إله الفينيقيين بالألم؟

لبنان اليوم يحتفل بالمازوت الإيراني ونسيت المليارات الأميركية والسعودية التي أنعشت اقتصاده وجعلت شعبه يعيش بكرامة من غير أن يشعر أنه ضئيل بين الأمم.

سيكون على اللبنانيين في مستقبل أيامهم أن يلطخوا أجسادهم بالمازوت ليحتفلوا باليوم الوطني للمازوت. ذكرى اليوم الذي نزلت عليهم بركة الولي الفقيه الذي سرق أموالهم وجعل منهم ضحايا حاجاتهم اليومية. أمن أجل هذا تبتكر الشعوب مقاومتها؟

سيتردد اللبنانيون في أن يلوموا حزب الله قبل أن يلوموا أنفسهم. لقد استسلموا إلى درجة الهوان فصار عليهم أن يقبلوا بالمازوت بديلا من قدموس.

رحل لبنان يوم وصل المازوت.