"يا ورد مين يشتريك".. الحب في زمن الغلاء

يبدو أن "جنون" أسعار الهدايا والورود الحمراء فاق "غلاوة" الحبيب لهذا العام، وأثقل كاهل العشاق الذين راحوا يُعيدون النظر في الميزانيّة المخصّصة لقلوبهم، وكأنّ التضخمّ العالميّ وتدهور قيمة الليرة تحرم غالبيتهم من الاحتفال بـ"فالانتاين" لأنّه أصبح مكلفاً أو لمَن استطاع إليه سبيلاً.

 

في جولة لـ"المدن" على بعض المحال التجاريّة في بيروت، نلحظ غياب أجواء العيد التي لطالما اعتدنا عليها، فلا دببة معلّقة في الشوارع، ولا زينة حمراء، أو حتّى ورود مخمليّة مصفوفة على الأرصفة، أمّا الحركة فهي خجولة تماماً. إذ لم يُقدم الباعة على شراء البضائع بكميات كبيرة نتيجة ارتفاع أسعارها، وسط تخوّف كبير من عدم تصريفها، في حين عوّضت "السوشيل ميديا" الفرق، وبرزت على صفحات المتاجر الإلكترونيّة أسعار الهدايا والورود بالعملة الصعبة، ممّا يُشير إلى أن الحبّ لم يعد بلا حساب، إذ تكلفة الاحتفال لليلة واحدة فاقت راتب الموظف نفسه.

 

حبّ في زمن الغلاء

يستعدّ سامر دياب للاحتفال بعيد الحبّ وذكرى زواجه الأولى من حبيبته نور وسط أجواء ضبابيّة و"غير مناسبة"، حسب تعبيره. فهو الحارس الليليّ في أحد مطاعم العاصمة، الذي لا يتعدّى راتبه 10 ملايين ليرة، أيّ أقلّ من 200$. فكيف له تحمّل نفقات "الفالانتاين" بهكذا مدخول؟

"كلّفني هذا العيد راتبي حرفياً، فلم أكتشف قيمة حياة العازب إلّا اليوم"، يقول سامر ممازحاً  لـ"المدن" إنّه "أنفق على سهرة ليلة 14 شباط قرابة الـ300$، حيث أن 80$ منها فقط سُدّدت كبدل إيجار لليلة واحدة في شاليه خاصّة بمنطقة الأرز، و120$ هديّة لزوجته وهي عبارة عن قلادة من الذهب على شكل قلب، و100$ أخرى توزعت على تكاليف أخرى مثل البنزين، والعشاء والورود، وطبعاً زجاجة النبيذ الأحمر الشهيرة.. صدقاً حاولت التوفير قدر المستطاع ولكن الأسعار خياليّة، وهذه سنتنا الأولى كثنائي متزوج، فلم أرغب بتمريرها على نحو عاديّ، ويبدو أنّنا سنأكل اليوم اللحم المشويّ، وغداً حتّى نهاية شهر شباط سنتناول البطاطا المسلوقة والسلطة".

 

أنا الهدية

لا خجل بين العشّاق، ولا بد من أن يحظى الثنائي بالقليل من المرح لكسر الروتين اليوميّ و"التمويه"، ولكن مع "تحليق" الأسعار تتبدّل المفاهيم والرغبات. تكشف كارمن خليفة لـ"المدن" عن العادات التي كانت تتبادلها وزوجها في مثل هذا اليوم. ولسخرية القدر، قرّرت الزوجة تجهيز مفاجأة "خفيفة" لشريك حياتها، إلّا أنّ الدهشة كانت من نصيبها هي بعدما اكتشفت أن ثمن "اللباس الداخليّ" التي اعتادت شراءه في "الفالانتاين" يفوق أضعاف ميزانيتها، مع العلم أنّه "ليس من ماركة معروفة، حيث تبدأ الأسعار من الـ30$ وصولاً إلى الـ100$ للقطعة الواحدة".

 

"هذه السنة أنا هدية زوجي، ومَن يعلم قد أكتب له الشعر وأفجّر مواهبي من باب التوفير"، في سياق حديث ما خلا من الدعابة الطريفة، أظهرت كارمن تفهمّها للوضع الراهن، موضحةً أنّها طلبت من زوجها عدم شراء الورود الحمراء التي ستذبل بعد يومين، أو حجز غرفة في فندق أو شاليه، والاكتفاء بتحضير عشاء منزليّ لشخصين من دون تبادل للهدايا حتّى. "لا يُخفى على أحد أن تجار الأزمات ينتظرون هذا الموسم على أحرّ من الجمر ليرفعوا أسعارهم، وربما معهم كامل الحقّ، ولكنّني اليوم مرغمة على التفكير بزوجي وأولوياتنا الحياتيّة، والأسعار ستنخفض بعد العيد مباشرة، عندها سأشتري له هديّة تليق به هو أيضاً. فأنا أعيش الحبّ بكامل حواسي معه يومياً، ولست بحاجة إلى 14 شباط ليُحدّد لي قيمتي بنظر زوجي أو العكس، فهذه الذكرى تجاريّة بمعتقدنا، ولن أسمح بأن نقع ضحيتها ونندم بعدها عندما نعجز عن تسديد فاتورة الكهرباء أو المياه مثلاً"، معتبرةً أن "طفلتها أحقّ بالمبلغ المالي الذي سندفعه على الكماليات، على أمل أن تكون هذه المرحلة قد شارفت على نهايتها، ونعود إلى الوضع الذي كنّا عليه".

 

الهدية برمزيتها

أمام أحد المتاجر الشهيرة في منطقة جلّ الديب، وقف رامي برباري ينظر إلى الواجهة المزيّنة بالشموع والورود الجافة، لعلّه يجد هدية تليق بحبيبته. وبعد أن صُدم بالأرقام المحدّدة بالدولار، طلب من البائع أن يعرض عليه أرخص ما يمكن تقديمه، انطلاقاً من مقولة "الهديّة برمزيّتها وليست بقيمتها الماديّة".

 

بخجل وحزن، يُخبرنا الطالب الجامعيّ كيف قضى شهوره الأخيرة وهو يدخّر لشراء هديّة "عليها القيمة" ليُقدّمها لحبيبته "تيا"، غير أن تدهور قيمة الليرة مقابل الدولار، أفقدت ميزانيته قيمتها... هذا كلّ ما أستطيع تقديمه حالياً".

 

"يا ورد مين يشتريك"

عيد الحبّ يعني شراء "بوكيه" من الورود الحمراء المخمليّة المزيّنة بطرق مختلفة. فسواء كنت رومانسياً أم لا، تبقى للوردة الطبيعيّة حصة وازنة من الاحتفالات، على الرغم من تفاوت أسعارها وتحوّلها إلى سوق سوداء.

 

على وقع أغاني الحبّ الرومانسيّة يستقبل مصطفى كشلي زوّاره بمحله المتواضع عند الطريق الجديدة في وسط بيروت، كاشفاً لـ"المدن" عن "تراجع قدرة المواطن الشرائية بنحو 70% مقارنة بالسنوات الماضية، إذ يُفضل الثنائي اليوم شراء هدايا مفيدة أكثر وفقاً لحاجة الحبيب".

في السنوات الماضية، تراجعت نسبة شراء الورود عموماً جرّاء وباء كوفيد وغيره من الويلات التي عانى منها البلد، والتي لا تزال تداعياتها مستمرّة حتّى يومنا هذا بصورة دراماتيكيّة أكثر.

 

يُشير صاحب متجر "أزهار فرح" في حديثه مع "المدن" إلى أن "أسعار الورود تتأثر عادةً بفعل ارتفاع قيمة الدولار، إذ أن المواد التي تُستخدم للاعتناء بها باهظة الثمن، ناهيك عن التكاليف التي يتكبدها التجار والباعة لاستيراد الورد الجوري في بعض الحالات تلبيةً لطلبات السوق. فبعض المتاجر الكبيرة تُسعّر بالدولار، حيث يبدأ ثمن الباقة الواحدة من الـ50$ وصولاً إلى الـ300$، وطبعاً هذا السعر يُحدّد وفقاً لحجم "البوكيه" وعدد الورود بداخلها، من دون احتساب تكلفة "البالونات" الخاصّة بعيد الحبّ، التي تأتي على شكل قلوب متعدّدة الأحجام. ولكن هذه الأرقام لا تعكس حقيقة الواقع، فمثلاً في المناطق الشعبيّة لا يمكننا اعتماد هذه التسعيرة لأنّنا سنفقد الزبون بالدرجة الأولى وستذبل ورودنا بانتظار مَن يشتريها، لذا اعتمدنا صيغة تُرضي ضميرنا بالدرجة الأولى ومن ثمّ العشّاق، وحدّدنا سعر الباقة ابتداءً من 200 ألف ليرة، والحمدلله تُعتبر الحركة لا بأس بها حالياً مقارنة مع وضع البلد والمنطقة، ولو كانت خجولة إلى حدّ كبير".

 

"الدبدوب" الأحمر رفاهية قديمة باهظة الثمن

لعلّ "الدبدوب" الأحمر بأحجامه المختلفة من أشهر هدايا عيد الحبّ على الإطلاق، إلّا أنّه أصبح رفاهية من "أيّام العزّ"، بعدما تخطّى ثمنه المليونَين!

 

عادة، تحرص المتاجر على عرض الكثير من الهدايا على أبوابها، لتجذب أكبر قدر ممكن من الزبائن، سواء كانت متفرقة، أو داخل مراكز تجارية كبيرة، فماذا تغيّر هذا العام؟

 

"كان سعر الدبّ الأحمر الكبير نحو 700 ألف ليرة في السنة الماضيّة، غير أنّني اشتريته هذا العام بمليون و800 ألف أيّ نحو 25$ وفق سعر الجملة، وعرضته للبيع بمليونَين ونصف المليون، ولا أتوقع أن يشتريه أيّ عاقل بهذا الثمن، ولكنّني لا أملك خياراً آخراً سوى اختبار حظيّ والانتظار ريثما تأتيني الرزقة في الدقيقة الأخيرة من حيث لا أدري، فعملياً لم تتغيّر الأسعار بالدولار الأميركيّ، ولكن انهيار قيمة الليرة جعلنا نخجل من تسعير هدايا عيد الحبّ"، تقول سمر الياس، صاحبة أحد متاجر بيع الهدايا في منطقة برج حمود.

 

وإذا كان التجار يعتبرون هذا العيد من المناسبات المهمة لتحريك الدورة الاقتصادية، تؤكّد سمر العكس، لافتةً إلى أن "الأسواق التجارية شبه خاوية، ولا مظاهر للحبّ بل للحزن والمآسي على أوضاعنا وشغفنا الذي فقدناه تجاه هذا العيد كما الأعياد الأخرى، فحتّى أيّام الحرب كنا نعمل لغاية منتصف الليل ولم تكن الأوضاع بهذا السوء أبداً".

 

لا شكّ بأن توقيت عيد الحبّ هذا العام يحمل الحزن والألم، بعد الكارثة الإنسانيّة التي ألمّت بسوريا وتركيا وأعادت إلى أذهان اللبنانيين ذكرى الرابع من آب، وهذا ما لعب دوراً أساسياً في تراجع رغبة غالبية العشّاق بالاحتفال، في حين تمّ إلغاء عدد كبير من السهرات الغنائية التي كانت متوقعة اليوم. فهل تحضر الرومانسيّة وتغيب مظاهر الـshow off عن عيد العشّاق هذا العام؟