يوسف الخليل: التوقيع المصرفي الثالث

منذ استقالة حكومة الرئيس حسّان دياب، خيضت المعارك الضارية لعدم تغيير المرجعيّة السياسيّة التي ستسمّي وزير الماليّة، والتي ستكون "مربط خيله" لاحقًا. وكما يذكر الجميع، اشتركت وتورّطت يومها المرجعيّات الدينيّة في خوض هذه المعركة، تحت عنوان الحفاظ على "التوقيع الشيعي الثالث". خلف الستار، كانت جميع المداولات تشير إلى إسم واحد: الموظّف في مصرف لبنان، ويد رياض سلامة اليمنى في مديريّة العمليّات الماليّة، يوسف الخليل. وكان واضحًا أن الإصرارعلى إسم يوسف الخليل، وما يعنيه هذا الإسم من تقاطعات بين مرجعيته السياسيّة في عين التينة ومرجعيّته المصرفيّة في مصرف لبنان، يرتبط أوّلًا بملفّات ماليّة داهمة لا يفترض أن تخرج عن نطاق السيطرة.

خلال الأيّام الماضية، وأكثر من أي وقت مضى، بدأت تتضح الأدوار التي كان من الممكن لعبها في وزارة الماليّة، ومن خلال توقيع وصلاحيّات وزارة الماليّة. وكما هو الحال دائمًا، لم يكن الحديث عن مصالح الطائفة وصلاحيّات مواقعها سوى غطاء لمصالح وارتباطات ماليّة ومصرفيّة أبعد من ذلك بكثير. وبين مقر رئاسة مجلس النوّاب في عين التينة، ومقر المصرف المركزي في الحمرا، تتشابك الحسابات والمصالح وتتعانق. وفي النتيجة، بات يمكن القول، وبكثير من الثقة والجرأة، أن يد يوسف الخليل لم تحمل مؤخرًا سوى التوقيع المصرفي الثالث.

الخليل والعبث بمعادلات توزيع الخسائر
من خارج سياق أي مسار مالي، قرّر مصرف لبنان إضافة موجودات بقيمة 16.5 مليار دولار إلى ميزانيّته النصف الشهريّة يوم الخميس الماضي، بوصفها ديون مترتّبة على الدولة اللبنانيّة، لمصلحة المصرف المركزي. والعارف بدهاليز معادلات توزيع الخسائر والمسؤوليّات وتصنيفها، يدرك سريعًا أن لعبة من هذا النوع ستعني زيادة قدر الخسائر التي ستتحمّلها الدولة اللبنانيّة، ودافعي الضرائب تحديدًا، بهذا القدر، مقابل تقليص الخسائر التي ستتحمّلها الميزانيّات المصرفيّة بقيمة موازية. مع الإشارة إلى أن كتلة الخسائر المصرفيّة تتركّز تحديدًا في ميزانيّة مصرف لبنان، من خلال الفارق بين موجودات وإلتزامات المصرف بالعملات الأجنبيّة.

من أي جاءت الـ 16.5 مليار دولار، التي استفاق عليها رياض سلامة منذ يومين، كما يستنجد التاجر المفلس بدفاتره القديمة؟ هي ببساطة كل السيولة بالعملة الصعبة التي باعها المصرف على مدى السنوات الـ 15 الماضية للدولة اللبنانيّة، بسعر الصرف الرسمي. الغريب في الموضوع، هو أنّ خطوة كهذه تتجاهل دور المصرف المركزي طبيعي، والذي يفرض عليه أن يجري عمليّات القطع لحساب الخزينة العامّة بشكل طبيعي، لا أن يقيّد عمليّات القطع كديون على القطاع العام. وهل من الطبيعي مثلًا، أن يشتري المصرف طوال السنوات الـ 15 الماضية الدولارات بسعر الصرف الرسمي، وأن يبيعها لأي شخص أو مصرف بهذا السعر، فيما يقوم بقيد هذه العمليّات كدين على الدولة بالتحديد؟

بذلك، قرر سلامة اللجوء إلى خزعبلات محاسبيّة جديدة، من تلك التي اشتهر بها منذ شروعه بالعمليّات الاستثنائيّة والهندسات الماليّة عام 2016. وهذه المرّة، جاءت هذه الخزعبلات على حساب الدين العام، الذي سيزيد اليوم بقيمة توازي 80% من حجم الناتج المحلّي بأسره.

السؤال أساسي هنا، يرتبط بسبب غياب وزارة الماليّة بالتحديد عن هذا المشهد، وبسبب تلكوئها عن القيام بأي مبادرة تجاه هذا الواقع المستجد. مع الإشارة إلى أنّ وزارة الماليّة يفترض أن تمثّل الحكومة اللبنانيّة، في دفاعها عن مصالح الدولة اللبنانيّة الماليّة. كما يفترض أن تلعب الوزارة دور الوصي على مصرف لبنان، والمراقب لحساباته من خلال مفوّضيّة الحكومة في المصرف المركزي. أمّا أهم ما في الموضوع، فهو أن المصرف سعى، على مرّ السنوات الماضية، إلى تمرير هذه الفكرة الجهنميّة ورمي هذا العبء على الميزانيّة العامّة، من دون أن توافق الحكومات المتعاقبة على مسعاه هذا.

التدقيق المغيّب
كل ما سبق ذكره، يفترض أن يقودنا للحديث عن التدقيق المفصّل في ميزانيّات المصرف المركزي، والذي يفترض أن يكشف تفاصيل العمليّات التي جرت طوال السنوات الماضية، والتي أدّت إلى تراكم الخسائر في الميزانيّات. التدقيق  الأوّلي والعمومي الأوّل، الذي جرى من خلال شركة محاسبيّة أجنبيّة خلال العام الماضي، ظلّ مخفيًّا حتّى اللحظة، بعد أن تم تقديم خلاصته إلى مصرف لبنان حصرًا. وحتّى اللحظة، لم يبادر وزير الماليّة إلى طلب هذا التدقيق لمناقشته ضمن الفريق المكلّف بدراسة خطّة التعافي المالي، رغم اتصال ملف التدقيق وتقدير الخسائر بعمل هذا الفريق. ومرّة جديدة، كان الوزير يعمل كغطاء للمصرف المركزي وإدارته، بدل أن يعمل كمفاوض لحساب مصلحة الدولة اللبنانيّة.

التدقيق الجنائي، الذي كان من المفترض أن يذهب أبعد من التدقيق المحاسبي، في تقصّي الخفايا التي تختبئ خلف العمليّات الماليّة، خرج من التداول ولم يُعرف مصيره، بعدما وقّع وزير الماليّة نفسه عقد التدقيق في أيلول 2021. ومن الناحية العمليّة، من المفترض أن تكون متابعة هذا التدقيق من مهام الوزير نفسه، كون العقد ينص بوضوح على أنّ عمليّة التدقيق الجنائي تجري أساسًا لحساب وزارة الماليّة، التي تمثّل المرجعيّة الرسميّة التي تعمل معها شركة آلفاريز آند مارسال.

التجديد لرياض سلامة
يوم أمس، كان وزير الماليّة نفسه أوّل شخصيّة رسميّة تصارح اللبنانيين بالاتجاه نحو تمديد ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، بعدما اقتصرت الأخبار والتكهنات المرتبطة بهذا الموضوع على بعض التسريبات، التي أشارت إلى المداولات الجارية بين رئيس الحكومة والثنائي الشيعي. مع الإشارة إلى أنّ حساسيّة تصريح وزير الماليّة بالتحديد، تأتي لكونه الشخص الوحيد الذي يملك الوصاية على كل ما يرتبط بالحاكم ومصرف لبنان، داخل مجلس الوزراء، ما يعطي كلامه حول مصير الحاكميّة أبعاداً خاصّة. في الوقت نفسه، ومع الأخذ بعين الاعتبار مرجعيّة الوزير السياسيّة، ثمّة ما يشير اليوم إلى أنّ ذلك التصريح "لم ينطق عن الهوى...".

باختصار، وعلى مدى الأشهر الماضية، لم يعبّر توقيع وزير الماليّة إلا عن المصالح المرتبطة بتقاطعات عين التينة ومصرف لبنان، وهو ما يعطيه لقب "التوقيع المصرفي الثالث" بجدارة. أمّا حقوق الطائفة، وكما هي العادة، لم تكن سوى عناوين تخفي وراء الأكمة ما وراءها.