المصدر: المدن
الكاتب: علي نور الدين
الأربعاء 3 أيار 2023 14:25:58
من المفترض أن يحل يوم الجمعة المقبل موعد الاستجواب الثاني لوزير الماليّة يوسف الخليل، في إطار الاستجوابات التي يجريها وفد التحقيق الأوروبي، بالاتهامات الموجّهة إلى حاكم مصرف لبنان وشركائه، بعدما تقاعس الخليل عن حضور الموعد الأوّل الأسبوع الماضي، بحجّة مخالفة النيابة العامّة التمييزيّة أصول التبليغ. وحتّى اللحظة، لا يوجد ما ينفي أو يؤكّد حضوره جلسة الاستجواب المقبلة. إذ تضاربت الروايات بين تلك التي تشير إلى اتجاهه للتقاعس عن الحضور، بضغط من رئيسي الحكومة ومجلس النوّاب، وتلك التي تؤكّد أن تسويةً ما ستفضي إلى حضوره بالتنسيق مع رئيس مجلس النوّاب .
لكن وبمعزل عن ما سيجري يوم الجمعة المقبل، بات من الواضح أنّ ثمّة أسئلة كبيرة تدور حول الدور الشائك الذي يلعبه الخليل في هذا الملف، وخصوصًا لجهة العصي التي يثابر على وضعها في دواليب التحقيقين المحلّي والأوروبي. وثمّة من سأل اليوم: هل بات الخليل فدائيًا يضحّي بمستقبله المهني والشخصي للتغطية على الحاكم، أم هو متورّط حتّى النخاع في الملف نفسه، حتّى يلعب كل هذه الأدوار المشبوهة لحماية نفسه أولًا؟ وإذا ذهبنا إلى سيناريو "الفدائي"، هل يقوم الخليل بذلك كعربون وفاء لصديقه ورئيسه التاريخي في المصرف، رياض سلامة؟ أم ثمّة ما يدفعه بهذا الاتجاه من ناحية "مرجعيته السياسيّة"، ذات الباع الطويل في توريط "وزراء ماليّتها" التكنوقراط بأدوار ملتبسة؟
لعبة صلاحيّات الوزير: مناورات مفضوحة
خلال الأسبوع الماضي، تفاجأت هيئة القضايا بمطالعة النيابة العامّة الاستئنافيّة في بيروت، ممثلة بالقاضي رجا حاموش، والتي تبنّت الدفوع الشكليّة التي تقدّم بها فريق الدفاع عن حاكم مصرف لبنان وشقيقه. المطالعة، خلصت إلى التوصية بإقصاء هيئة القضايا عن الملف، أي منع اتخاذها موقع الادعاء على حاكم مصرف لبنان بإسم الدولة اللبنانيّة، بحجّة عدم استحصال الهيئة على موافقة وزير الماليّة للادعاء على الحاكم. وفي حال قرّر القاضي شربل أبي سمرا، الذي يحقق في الملف اليوم تبنّي هذه التوصية، فسيكون القضاء اللبناني قد أبطل ادعاء الدولة على الحاكم. وهذا تحديدًا ما سيعني إبعاد الدولة عن متابعة الملف واتخاذ الإجراءات المطلوبة لحماية حقوقها.
أمّا أخطر ما في هذه الخطوة، فهي أنّها ستمنع الدولة من ضمان حقّها في الأموال المشتبه باختلاسها، والمحتجزة في الخارج لمصلحة النيابات العامّة الأوروبيّة. وهكذا، ستكون لعبة الخليل وحاموش وفريق الدفاع عن الحاكم قد كلّفت لبنان مئات ملايين الدولارات، من أجل تحييد هيئة القضايا وادعاء الدولة عن التحقيق المحلّي.
تبدأ تفاصيل اللعبة بالانكشاف مع تسرّب وثيقة موقّعة من يوسف الخليل نفسه، ومؤرّخة في 18 نيسان الماضي (الوثيقة المرفقة)، حيث يتبيّن أن هيئة القضايا راسلت الخليل بالفعل لأخذ موافقته على الادعاء، فيما أجاب الخليل بعدم علاقة الوزارة من الناحية القانونيّة "بإبداء الرأي بشأن اتخاذ الدولة اللبنانيّة اتخاذ صفة الادعاء الشخصي في التحقيق".
أي بصورة أوضح، كان الخليل نفسه هو من وافق على التشخيص القانوني الذي سارت فيه هيئة القضايا لاحقًا، والذي اعتبر أن الادعاء على سلامة لا يستوجب موافقة وزير الماليّة، نظرًا لخضوع حاكم مصرف لبنان لقانون النقد والتسليف، لا قانون الموظّفين العامّين الذي يفرض موافقة وزير الوصاية على الادعاء.
وحتّى في حال وجود ما يفرض الاستحصال على موافقة وزير الماليّة، من الناحية القانونيّة، يظهر من هذه الوثيقة أنّ وزير الماليّة هو نفسه من تقاعس عمدًا عن إعطاء هذه الموافقة، بحجّة عدم امتلاك الصلاحيّة. ببساطة: وزير الماليّة تهرّب من الموافقة، ثم ساهم بعرقلة ادعاء الدولة على الحاكم بحجّة عدم وجود هذه الموافقة.
لسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل كان الخليل صادقًا في هذا الكتاب، حينما اعتبر أن الادعاء على الحاكم لا يستوجب موافقته؟ وفي هذه الحالة، ما الذي غيّر رأيه اليوم؟ هل تدخّلت "مرجعيّة سياسيّة" ما؟ ولماذا لا يخرج ليناقض مطالعة النيابة العامّة الاستئنافيّة في بيروت، التي أبطلت ادعاء الدولة على سلامة بحجّة صلاحيّات وزير الماليّة؟ أمّا إذا كان الكتاب مجرّد مناورة، للتهرّب من مسؤوليّته في متابعة الادعاء، فهذا يشير مرّة جديدة إلى طبيعة الدور الملتبس الذي يلعبه الخليل لمصلحة الحاكم.
متورّط حسب التحقيقات
في واقع الأمر، ثمّة ما يكفي من إشارات تدفعنا باتجاه البحث عن إمكانيّة تورّط يوسف الخليل في ملف شركة فوري، وهو ما قد يكون الدافع الأساسي لكل هذه العراقيل التي يضعها في وجه التحقيق في الملف. مع الإشارة إلى أنّ استدعاء الخليل للتحقيق يوم الجمعة يأتي تحديدًا على خلفيّة موقعه، ونوعيّة العمليّات التي كان يشرف عليها في المصرف المركزي، والتي تتصل بعمل شركة فوري والعمولات التي استحصلت عليها. مع الإشارة إلى أنّ شركة فوري هي الشركة الوهميّة المسجّلة بإسم شقيق حاكم مصرف لبنان، والتي تشتبه التحقيقات باستخدامها لاختلاس نحو 330 مليون دولار من أموال مصرف لبنان، بوصفها عمولات مزعومة لقاء خدمات وساطة لم تتم فعلًا
في التحقيقات التي قام بها القاضي جان طنّوس مع يوسف الخليل في مراحل سابقة، وعلى خلفيّة الملف نفسه، أكّد الخليل أن مهامه كمدير للعمليّات في مصرف لبنان كانت تشمل التواصل مع المصارف التجاريّة، لتلقّي عروض شراء شهادات الإيداع من مصرف لبنان وسندات اليوروبوند، وهي تحديدًا العمليّات التي كانت شركة فوري تتلقى على أساسها العمولات من المصرف المركزي (من دون أن تقوم بمهام الوساطة المزعومة بالفعل).
وفي الوقت الذي نفى فيه يوسف الخليل معرفته بشركة فوري أو رجا سلامة، أكّد الخليل أنّه نفّذ تعليمات المجلس المركزي لمصرف لبنان، والتي نصّت على إصدار شهادات الإيداع وبيعها مقابل عمولة قدرها 0.375% من أصل قيمة الإصدار، وهي العمولة التي وردت في العقد الوهمي بين مصرف لبنان وشركة فوري.
أمّا العمولة، فكانت تودع بحسب الخليل في حساب خاص في المصرف المركزي، وهو الحساب الوسيط الذي تم استعماله في ما بعد لتحويل الأموال لشركة فوري في سويسرا. بمعنى أوضح، كانت مهام الخليل في مصرف لبنان متصلة، وبشكل وثيق للغاية، بكل العمليّات المشبوهة التي جرت، والتي تجري التحقيقات بشأنها، وإن أنكر الخليل معرفته بوجهة العمولة التي كان يجري تجميعها بالحساب الوسيط. وهذا تحديدًا ما يطرح السؤال التالي: هل كان الخليل ينفّذ العمليّات ويجمع العمولات من المصارف لحساب عميل لم يعرفه؟ ولقاء خدمات لا يعرف نوعيّتها؟ ألم يستحق الأمر أن يسأل عن وجهة نحو ثلث مليار دولار من العمولات، التي كان يجري تجميعها في الحساب الوسيط، بعد إجراء العمليّات التي أشرف عليها يوسف الخليل؟ ألم يلاحظ الخليل أنّ لا شيء في كل العمليّات التي قام بها، يبرّر تجميع ودفع عمولة كهذه، لصالح شبح مجهول؟
اسألوا غازي وزني.. مثلاً
الشبهة بيوسف الخليل مشروعة إذًا، بانتظار قرار الادعاء في باريس الذي يفترض أن يحدد الأطراف التي تعتبرها القاضية آود بوريسي مشتبهًا بها في هذا الملف. أمّا العراقيل التي يقوم بها الخليل، فباتت واضحة للعيان، كما باتت موثّقة بالقرارات القضائيّة والمستندات الموقّعة من قبله. وهذا ما يزيد من الشكوك بإمكانيّة اتصال كل هذه العراقيل بتورّط الخليل في الارتكابات التي يجري التحقيق بشأنها.
أمّا الأكيد حاليًا، فهو أن جميع الأدوار التي لعبها الخليل، سواء في عمليّات شركة فوري، أو في عرقلة التحقيقات بشأنها اليوم، ستعني التضحية بمستقبله كشخصيّة تكنوقراطيّة، تمامًا كما ضحّى النظام السياسي بالكثير من الشخصيّات التكنوقراطيّة، التي تم استخدامها لملء منصب من هنا أو التعبير عن تقاطع مصالح من هناك. مثلًا، اسألوا غازي وزني عن الكابيتال كونترول.