المصدر: نداء الوطن
الكاتب: نبيل يوسف
الأربعاء 18 حزيران 2025 11:06:50
في 23 شباط 1966 قام اللواء صلاح جديد ومجموعة من الضباط السوريين من بينهم حافظ الأسد بانقلاب عسكري ضد الرئيس السوري أمين الحافظ الذي تسلّم الرئاسة منذ انقلاب حزب "البعث العربي الاشتراكي" في 8 آذار 1963 وأودع مع وزير دفاعه اللواء محمد عمران سجن المزة.
بعد هزيمة حزيران 1967 أطلق سراحهما فغادرا سوريا إلى طرابلس، حيث فيها وجود بعثي قديم وناشط، والبعثيون في طرابلس بمعظمهم من مؤيدي خط الرئيس أمين الحافظ.
عند وصولهما إلى عاصمة الشمال ليلًا توجه أمين الحافظ إلى منزل الشيخ يوسف الضاهر قرب مدرسة الطليان وبات ليلته عنده: يتذكر بيار الضاهر أن والدته أقامته من النوم لإخلاء الغرفة للضيف.
لماذا إلى بيت يوسف الضاهر؟
كانت تربط الشيخ يوسف الضاهر صداقات مع معظم التجار والصناعيين والرأسماليين السوريين، لا سيما من يقصدون طرابلس ولبنان الشمالي لإنجاز أعمالهم ومن بينهم الرئيس الحافظ ومن لاقاه إلى طرابلس فاعتبروا بيت الشيخ الضاهر الأكثر أمانًا.
مبيت أمين الحافظ في منزل يوسف الضاهر ولاحقًا في بيت "الكتائب" منعه من زيارة سوريا حتى سنة 1972 حين زاره رفعت الأسد في شكا ودعاه إلى زيارة سوريا وفتح صفحة جديدة. أما اللواء محمد عمران فبات ليلته في منزل عبدو حبوس والد النائب العلوي لاحقاً أحمد حبوس ووالد أنوش زوجة ابن عمه.
في اليوم التالي انتقلا إلى فندق صغير يدعى "قصر المنتزه" أفخم فنادق طرابلس يومها، وكان يقع في نهاية شارع "عزمي" وهدم نهاية السبعينات. كان يملكه الدكتور يوسف فضول نقيب الأطباء في طرابلس ونائب منطقة بشري، ويستثمره الأمير داوود شهاب. الفندق كان عبارة عن بناء تراثي، شُيّد زمن الحكم التركي أواسط القرن التاسع عشر، وكان في الأساس مقرًا للولاة وكبار الضباط الأتراك وضيوفهم، وقناصل الدول الأجنبية، وزمن الانتداب الفرنسي تم تحويله إلى فندق لا يزيد عدد غرفه عن 40 غرفة خصص بصورة رئيسية للمتزوجين حديثًا من العائلات الميسورة لقضاء شهر العسل.
عند وصول الرئيس أمين الحافظ واللواء محمد عمران، كان يستثمر الفندق الأمير داوود شهاب من بعبدا، ومديره شاب من حصرون يدعى جورج حكيم وهو كتائبي الانتماء. ولدى وصولهما إلى طرابلس، فصل لهما الأمن العام اللبناني 3 عناصر بإمرة مفتش طرابلسي يدعى سليم ريفي مهمتهم حمايتهما ويقول البعض مراقبتهما.
سرعان ما تحول الفندق إلى خلية نحل، وأصبح يغص بالزوار الطرابلسيين ومعظمهم من مسؤولي ومؤيدي "البعث" ومن السوريين، لا سيما المنفيين منهم.
في هذا الفندق قضى الرئيس السوري ووزير دفاعه أقل من 15 يوماً، فماذا جرى خلال تلك الأيام ولماذا غادراه؟
طوال إقامته في الفندق لم يغادره الحافظ إلا في ما ندر وفي زيارات خاطفة، لكنه استقبل العشرات على عكس عمران الذي نادراً ما أقام فيه إلا للنوم، وكان دائم التجول وزيارة العديد من الرفاق والأصدقاء.
وعمران من الطائفة العلوية ومن عشيرة الخياطين ومنها الكثير من العلويين المقيمين في طرابلس، خاصة في محلة جبل محسن.
بعد نحو 10 أيام على إقامتهما في الفندق، قصدهما المفتش سليم ريفي، وأبلغهما أن هناك عيونًا أرسلها الحكم في سوريا بدأت تظهر حول الفندق، وهو متخوف من شيء أمني يحضّر لهما، فنصحهما بالتحفيف من تنقلاتهما واستقبالاتهما وحتى مغادرة طرابلس إلى مكان آخر قد يكون أكثر أمانًا، إلى أن كان ذاك النهار.
ماذا جرى يومها؟
كعادته غادر اللواء محمد عمران الفندق صباحًا للقيام برياضة المشي برفقة بعض الأصدقاء، ومن ثم توجه إلى منزل عبدو حبوس لتناول الفطور مع بعض المدعوين. لدى خروجه من المنزل مع بعض الأشخاص عائداً إلى الفندق شاهد صدفة قرب المنزل ضابط مخابرات سورياً علوياً يعرفه جيداً يدعى يوسف الخطيب كان وقتها برتبة ملازم أو ملازم أول: لعب لاحقًا هذا الضابط دورًا أمنيًا في لبنان بعد دخول الجيش السوري سنة 1976.
ماذا حصل مع الضابط السوري يوسف الخطيب؟
هناك روايتان: الأولى تقول إن اللواء عمران تعرف عليه وأدرك أنه بمهمة فتقدم منه والبعض يقول صفعه وسأله: ماذا يفعل في طرابلس؟ أدى له الضابط الخطيب التحية وقال له: "سيدنا في قرار باغتيالك والرئيس الحافظ وجايي فرقة تنفذ العملية وأنا بمهمة استكشافية".
الرواية الثانية تقول إن الملازم الخطيب وما إن شاهد اللواء عمران تقدم منه وأدى له التحية وأخبره بمخطط الاغتيال طالبًا منه مغادرة طرابلس.
ربط اللواء عمران كلام الضابط السوري بمعلومات المفتش ريفي وتأكد له أن هناك مخطط اغتيال وعلى الفور غادر إلى دوما في جرد بلاد البترون.
إلى دوما البترونية
من بين الذين استقبلوا الرئيس الحافظ واللواء عمران في طرابلس شاب علوي سوري كان صديقاً للواء عمران من زمن الدراسة، وعائلته من أثرياء الطائفة العلوية كانت غادرت سوريا إلى لبنان زمن الوحدة مع مصر، ويقال إن هذا الشاب هو من تكفل بمصاريف الرئيس الحافظ واللواء عمران في لبنان.
كان هذا الشاب العلوي مع اللواء عمران عندما التقى الملازم الخطيب وهو من ألحَّ على المغادرة فوراً للإقامة في منزل تملكه عائلته في دوما في جرد بلاد البترون البعيدة عن عيون الحكم الجديد في سوريا.
الحافظ في بيت الكتائب
مطلع أربعينات القرن المنصرم ولم يكن مرت سنواتٍ قليلة على تأسيسه، وصل حزب "الكتائب" إلى طرابلس؛ حمله إلى عاصمة الشمال مجموعة من الشبان المسيحيين من طرابلس وقرى الشمال كانوا يدرسون أو يعملون في بيروت.
عند بدء نشاط الكتائبين افتتحوا مقراً لهم في شقة قدمها الشيخ بطرس الخوري في البناية التي يملكها في شارع الجميزات (حالياً حيث حلويات الحلاب).
أواخر خمسينات القرن العشرين ازداد عدد الكتائبيين وتوسع نشاطهم، فتم شراء منزل أكبر قرب كاتدرائية مار مارون دُفع ثمنه من تبرعات المحازبين والمناصرين.
شهد بيت الكتائب حتى ربيع 1975 تاريخ مغادرة الكتائبيين طرابلس أحداثًا هامة، قد يكون من أبرزها لجوء الرئيس السوري أمين الحافظ إليه. يوم مغادرة اللواء محمد عمران طرابلس إلى برمانا، انتقل الحافظ إلى بيت الكتائب في طرابلس: لماذا تم هذا الانتقال وكيف؟
كان الحافظ قد قرر التوجه إلى بغداد ولم يشأ الانتظار في بيروت حتى سفره، فقرر البقاء في طرابلس، معتبراً أنه سيكون محمياً أكثر بين محازبي البعث، وراح يدرس إمكانية اختبائه فيها.
ظهر ذلك النهار، ومن بين الواصلين إلى الفندق، المسؤول البعثي فؤاد الأدهمي، وكانت تربطه صداقة بمدير الفندق جورج حكيم، وخلال الجلسة مع الحافظ وحلقته الضيقة التي كانت تبحث عن مكان آمن ينتقل إليه الرئيس السوري، طلب جورج حكيم الكلام واقترح بيت الكتائب.
حل الصمت فالجميع تفاجأ، وأكمل جورج حكيم: "آخر مكان يمكن التفكير أن الرئيس أمين الحافظ متواجد فيه هو "بيت الكتائب".
بعد نقاش سريع وافق الرئيس الحافظ على الانتقال إلى "بيت الكتائب"، ولكن يجب أخذ موافقة مسؤولي الكتائب.
على الفور توجه جورج حكيم وفؤاد الأدهمي والتقيا اسطفان حكيم من حصرون مسؤول حزب "الكتائب" في طرابلس وانتقلوا للقاء الشيخ يوسف الضاهر رئيس إقليم الشمال الكتائبي.
وافق الشيخ يوسف الضاهر، ولكن قرار بهذه الأهمية يستوجب موافقة الشيخ بيار الجميل، فغادر فؤاد الأدهمي وأنطوان الحكيم إلى بيروت ومعهما جميل الصراف مفوض قسم طرابلس الكتائبي حاملين رسالة من الشيخ يوسف الضاهر، تشرح الوضع واقتراح انتقال الرئيس السوري إلى "بيت الكتائب" حفاظاً على حياته.
ما إن أنهى الشيخ بيار الجميل قراءة الرسالة، وقبل أن يستمع إلى شروحات حامليها، أعطى موافقته طالبًا الإسراع بتنفيذ عملية الانتقال حفاظًا على حياة الرئيس الحافظ الذي التجأ إلى بلادنا وواجب علينا حمايته.
مع أول خيوط مغيب ذلك النهار ومتخفياً بزي فلاح عربي، غادر الرئيس الحافظ الفندق، وجال في بعض شوارع طرابلس ليدخل "بيت الكتائب" خلسة، وكان في استقباله الشيخ يوسف الضاهر وبعض مسؤولي "الكتائب" في طرابلس ولاقاه عدد من مسؤولي حزب "البعث".
(يتبع)