الهيئة المصرفية العليا تبصر النور.. الآن حكيم: الترقيع لم يعد يُجدي والإصلاح يبدأ باستعادة الدولة قرارها

لا يمكن الحديث عن استرداد الأموال من دون الإقرار بالمسؤوليات، وعلى الدولة، مصرف لبنان، المصارف، وحتى بعض كبار المودعين المستفيدين من الفوائد غير الواقعية، جميعهم مسؤولون بدرجاتٍ متفاوتةٍ. المودع العادي هو الضحية الأولى، ويجب أن تبدأ عملية المُساءلة قبل أي خطة ترميم للثقة.

سجّلت اللجنة الفرعية المنبثقة عن لجنة المال والموازنة النيابية خرقًا نوعيًا في مسار قانون إصلاح المصارف، خلال جلستها الأخيرة التي عُقدت برئاسة النائب إبراهيم كنعان، وبحضور وزير المالية ياسين جابر، وحاكم مصرف لبنان كريم سعيد، وممثلين عن الجهات القانونية والمصرفية، وعدد من النواب الأعضاء في اللجنة.

الخرق تمثّل بالاتفاق على تشكيل الهيئة المصرفية العليا، الجهة التي ستُناط بها مسؤولية الإشراف على عملية إصلاح القطاع المصرفي، وسط أزمةٍ ماليةٍ غير مسبوقةٍ لا تزال تداعياتها تعصف بلبنان منذ العام 2019.

هيئتان قضائيتان في هيئةٍ واحدة

وبحسب كنعان، فإنّ "استجابة وزارة المال وحاكم مصرف لبنان لطلبنا بإعداد اقتراحٍ مشتركٍ حول الهيئة المصرفية العليا أفضت إلى التوصّل إلى صيغةٍ موحّدة، ما يؤهّلنا للانتقال بسرعةٍ أكبر إلى مناقشة بقيّة مواد القانون”.

وبموجب الصيغة الجديدة، تتكوّن الهيئة من غرفتَيْن:

الغرفة الأولى تُعنى بالإجراءات الاعتيادية، وتضم: حاكم مصرف لبنان رئيسًا، النائب الأول للحاكم، مدير المالية العام، قاضٍ يُعيَّن بمرسومٍ وفقًا للائحةٍ من مجلس القضاء الأعلى، رئيس لجنة الرقابة على المصارف، ورئيس المؤسسة الوطنية لضمان الودائع.

أمّا الغرفة الثانية فتختصّ بالأزمة المصرفية وتحديد المسؤوليات، ويرأسها أيضًا حاكم مصرف لبنان، مع نقاشٍ مفتوح حول تعيين عضوَيْن إضافَييْن: إما من بين نواب الحاكم، أو من ترشيحات نقابتي المحامين أو خبراء المحاسبة، إلى جانب قاضٍ وممثلٍ لمؤسسة ضمان الودائع لا يكون من المصارف التجارية.

الإصلاح رهنٌ بقانون الفجوة

لكن كنعان شدّد، في المقابل، على أن “القانون لا يمكن أن يُطبَّق بغياب قانون الفجوة المالية، الذي لا تزال الحكومة تتأخّر في إرساله”، لافتًا إلى أن هذا القانون هو الذي يُحدّد كيفية استرداد الودائع وتوزيع الخسائر بين الدولة، مصرف لبنان، والمصارف. وأوضح أن المادة 36 من قانون إصلاح المصارف تُعلّق تنفيذه إلى حين إقرار قانون الانتظام المالي، الذي يُنظّم العلاقة بين المودعين والمصارف والدولة.

وقال كنعان بوضوح: “ما حصل هو تقدّمٌ مهم، لكنّه غير كافٍ. نريد إصلاحًا غير مجتزأ، والكرة الآن في ملعب الحكومة لتقديم القوانين المطلوبة. لا يمكن الحديث عن استعادة الثقة من دون تشريعاتٍ شفافةٍ تُحدّد المسؤوليات وتعالج كيفية الهدر الذي طال ودائع اللبنانيين”.

ألان حكيم: الإصلاح يبدأ باستعادة الدولة قرارها

هذا التقدّم التشريعي، وإن كان مهمًّا، لا يُغني عن مقاربةٍ شاملةٍ يتقاطع حول ضرورتها عدد من الخبراء، ومن بينهم وزير الاقتصاد والتجارة الأسبق ألان حكيم، الذي يرى في تشكيل الهيئة المصرفية العليا خطوةً ضروريةً، لكن غير كافيةٍ، نحو إصلاحٍ حقيقي.

ويؤكد حكيم أنّ “وجود مرجعية مصرفية تتمتّع بالمصداقية والشفافية وتبتعد عن الاستنسابية في القرارات هو مفتاحٌ لضبط القطاع ومواكبته، ولا سيّما في ظلّ تعقيدات الأزمة الراهنة”، مشيرًا إلى أن مصرف لبنان، من خلال لجانه التنظيمية، يحاول إيجاد حلولٍ شفافة، لكن الإصلاح الشامل يتطلّب أكثر من مبادراتٍ تقنية.

فصل السلطات القضائية… وتعزيز الحوكمة

أما عن الفصل بين الغرفتَيْن داخل الهيئة، فيعتبره حكيم “خطوةً ضروريةً لضمان الشفافية وتفادي تضارب المصالح”، مضيفًا أنّ الغرفة القضائية تُعالج القضايا القانونية وتُحدّد المسؤوليات، فيما تركّز الغرفة الثانية على الحلول الاقتصادية للأزمة. هذا الفصل يُعطي وجهًا مهنيًا وعادلًا للعمل القضائي ويُعزّز استقلالية كل جهة.

قانون الفجوة المالية: حجر الزاوية الغائب

وحول قانون الفجوة المالية، يقول حكيم إنّ “هذا القانون يُشكّل المرحلة الثانية من مسار الإصلاح بعد قانون رفع السرية المصرفية، وهو الأساس لإعادة هيكلة القطاع المصرفي”، محذرًا من أن التأخير في إرساله من الحكومة يُعرقل الإصلاحات برمّتها.

ويُضيف: “هذا التأخير قد يكون نتيجة عدم جهوزيةٍ أو مناكفاتٍ سياسيةٍ تمنع تحديد الخسائر بشفافيّة، وهو أمرٌ لم يعد مقبولًا لا محليًا ولا دوليًا”.

الإصلاحات المجتزأة… لا تكفي

كما يُحذّر حكيم من “الإصلاحات المجتزأة والبطيئة”، مؤكّدًا أن المطلوب هو مقاربةٌ شاملة تبدأ بقانون الانتظام المالي، لأن الترقيع لم يعد يُجدي في ظلّ نفاد الوقت، مُشدّدًا على أنّ الإصلاحات مترابطة، وتأخير أيٍّ منها يُؤدي إلى تشتّتٍ وفقدانٍ أكبر للثقة.

استرداد الودائع… يبدأ بالمساءلة

وعن الودائع، يُوضح حكيم أنّه “لا يمكن الحديث عن استرداد الأموال من دون الإقرار بالمسؤوليات”، مُشَدّدًا على أنّ الدولة، مصرف لبنان، المصارف، وحتى بعض كبار المودعين المستفيدين من الفوائد غير الواقعية، جميعهم مسؤولون بدرجاتٍ متفاوتةٍ. “المودع العادي هو الضحية الأولى، ويجب أن تبدأ عملية المُساءلة قبل أي خطة ترميم للثقة”.

ويختم حكيم: “اجتماع اللجنة كسَر الجمود، لكنّ الكرة باتت في ملعب الحكومة. الإصلاحات لا تنجح من دون دولةٍ قادرةٍ وذات رؤية. لا يمكن فصل أيّ إصلاحٍ اقتصاديّ عن مسألة استعادة الدولة لسيادتها وقرارها المستقل”.