المصدر: المدن
كان جامع جامع يجلس دائماً على مقعدٍ منخفض في مكتبه، يضع نظّارته على الطاولة، ويحدّق طويلاً في ضيوفه قبل أن ينطق بكلمة. كان الصمت جزءاً من منهج التحقيق لديه؛ تعذيباً رمزياً يسبق أي سؤال، وأسلوباً صار علامة خاصة باسمه. ومع مرور السنوات، أصبح الرجل مرادفاً للرعب، على الرغم من أن بعض السوريين كانوا يرونه "ضابطاً عادلًا" يكره الرشوة ويضبط الفوضى.
ذلك التناقض بين الخوف والإعجاب هو ما جعل جامع جامع شخصيةً استثنائية في جهاز لا يُجيد سوى إنتاج الخوف.
لم يُسمَع صوت الرصاصة يوم مقتله. فقط صمتٌ ثقيلٌ انساب فوق دير الزور، كأن المدينة أدركت أن واحداً من أعمدة الرهبة قد سقط. وفي المساء، ظهر بيان مقتضب على شاشة التلفزيون السوري: "استشهاد اللواء جامع جامع خلال أداء واجبه الوطني".
لا تفاصيل. لا صور. ولا حتى جنازة رسمية.
الرجل الذي أمضى عمره يراقب الآخرين من خلف زجاجٍ مظلم، رحل من دون أن يراه أحد. وفي مقاهي دمشق، انتشر الخبر مثل إشاعة محرّمة. همس البعض: "قتلوه". ولم يسأل أحد عمّن يقصدون بـِ "هم"، فحين يُقتل ضابط مخابرات بهذا الحجم في سوريا، لا يُطرح السؤال عن القاتل؛ بل عن صاحب قرار الصمت.
النظام نسب مقتله إلى "الثوار". لكنّ مصدراً مطّلعًا أكد لـِ "المدن"، أن النظام نفسه هو من أمر أحد ضباطه بتصفية جامع جامع برصاصة في الظهر، بعد أن توسّعت سلطته في دير الزور، وتحوّل إلى مركز نفوذ ميداني يمتلك ولاءاتٍ محلية، ويتصرّف باستقلالية غير مريحة لدمشق.
ووفق المصدر نفسه، فإن الضابط الذي نفّذ عملية التصفية رُمي من طائرة لاحقاً، لتُدفن معه الحقيقة التي تكشفها "المدن"اليوم: جامع جامع مات برصاصة من النظام الذي خدمه… لا من خصومه.
من الساحل إلى العاصمة
وُلد جامع جامع في بلدة زامة بريف جبلة، في بيتٍ بسيط على أطراف الساحل. ابنُ البيئة نفسها التي دفعت كثيرين من أبناء جيله إلى اعتبار المؤسسة العسكرية طريقاً مختصراً نحو الدولة، ووسيلة للخروج من الهامش الطائفي والاجتماعي.
التحق بالكلية الحربية في حمص وتخرّج في ثمانينيات القرن الماضي، في زمنٍ كانت فيه المخابرات هي الدولة، والدولة هي المخابرات. هناك، في قاعات التدريب الأولى، تعلّم المعادلة الوحيدة التي لا تتبدّل: الولاء قبل القانون، والخوف قبل الأخلاق.
لم يكن جامع صاحب نفوذ عائلي، ولا قريباً من الدائرة الضيقة، لكنه امتلك ما كان النظام يفضّله دائمًا على النسب: الانضباط، الطاعة والقدرة على الصمت.
تقدّم ببطءٍ ثابت داخل جهاز الاستخبارات العسكرية، واشتهر بالتشدّد في الالتزام، حتى وُصف داخليًا بـِ "الضابط النموذجي". وكان ذلك اللقب، في قاموس الأجهزة، يعني أمراً واحداً: رجلاً يمكن الوثوق بأنه لن يفكّر من تلقاء نفسه.
بيروت
في التسعينيات، أُرسل جامع جامع إلى لبنان ضمن جهاز الأمن والاستطلاع السوري، في مرحلةٍ كانت فيها بيروت موزّعة بين الولاءات والمصالح. هناك، أمضى سنواتٍ طويلة في الظلّ: يدير الشبكات، يراقب السياسيين، ويمسك بخيوطٍ متشابكة من الأمن والسياسة والمال.
كان ضابطاً صغيراً في جيشٍ يحتلّ دولةً كاملة، لكنه أدرك مبكراً أن القوة لا تُقاس بالرتبة؛ بل بعدد الأسرار التي يحملها صاحبها.
في أروقة عنجر، وفي مكاتب المطار والضاحية، راكم جامع رصيداً من الأسرار يكفي لجعل أيّ رجلٍ "لا يُمسّ".
وحين انسحب الجيش السوري من لبنان في العام 2005، عاد جامع إلى دمشق مثقَلاً بما لا يُقال. ومنذ ذلك الحين، أصبح جزءاً من الحلقة الأمنية التي لا تُمسّ… لكنه، على نحوٍ خفيّ، بدأ يتحوّل إلى عبء.
دير الزور
عندما اندلعت الانتفاضة في العام 2011، كان النظام يبحث عن رجالٍ يُجيدون إخضاع المدن المتمرّدة. أُرسل جامع جامع إلى دير الزور، محافظة الفرات والعشائر والنفط، ليتولّى رئاسة فرع المخابرات العسكرية هناك.
يروي أحد الضباط الجدد أن وصوله إلى المدينة بدا أشبه بوصول حاكمٍ عيّنه القيصر.
في البداية، حاول جامع تقديم نفسه كـَ "الضابط الأب"، يجتمع بوجهاء العشائر ويتحدّث عن المصالحة. لكنّ تلك الصورة لم تصمد طويلاً.
مع تصاعد التظاهرات، تحوّل جامع إلى القبضة الحديدية للنظام في الشرق. قاد عمليات المداهمة بنفسه، وأشرف على حملات الاعتقال الواسعة. وفي التقارير التي كانت تُرفع إلى دمشق، كان اسمه يُذكر دائمًا مقرونًا بعبارة: "تمّت المهمّة بنجاح".
الولاء المفرط بوصفه خطيئةً
في الدولة الأمنية، الولاء لا يُكافأ… بل يُراقَب. والضابط الذي يبالغ في إظهار إخلاصه قد يتحوّل، في النهاية، إلى خطر.
في العام 2013، ومع احتدام المعارك في الشرق السوري، بدأت تظهر شقوق واضحة داخل المنظومة. تنافست فروع الأمن على النفوذ، وتداخلت مصالح المخابرات العسكرية مع الأمن الجوي والأمن السياسي، في مشهد يعبّر عن دويلةٍ داخل الدولة.
تردّدت روايات عن خلافاتٍ جمعت جامع بضباط آخرين حول السيطرة على المعابر وطرق التهريب، وعن صدامٍ خافت مع شخصيات نافذة في الحرس الجمهوري. وربما كانت تلك الصدامات كافية لجعل إزاحته مسألة وقت. ففي نظامٍ يقوم على الشكّ، يكفي أن يمتلك رجل نفوذاً ليتحوّل ذلك إلى تهمة بحدّ ذاتها.
موت بلا رايات
في مساء الثامن عشر من أكتوبر 2013، انتشر الخبر سريعاً: اللواء جامع جامع قُتل برصاص قنّاص في حيّ الرشدية بدير الزور. الرواية الرسمية قالت إنه استُهدف أثناء تفقده خطوط الجبهة. لكنّ شهوداً في المدينة تحدّثوا عن انفجارٍ سبق الرصاصة، وعن جثةٍ لم تُعرض للعلن. لم يُسمح للصحافة بالدخول، ولم تُنشر صورة واحدة لموقع مقتله.
بعد يومين، دُفن في قريته في جبلة، بحضورٍ محدود. لا مواكب عسكرية، ولا نعوات على جدران العاصمة، ولا أوسمة. كأن الدولة أرادت محو أثره لا تكريمه. وبين أوساط الضباط، شاع الهمس نفسه: "الرجل قُتل من فوق… لا من أمام".
النظام يأكل أبناءه
قبله بسنوات، مات غازي كنعان في مكتبه بطلقةٍ قالت الدولة إنها "انتحار". وبعده بأشهر، اختفى كثيرون من رجال الصفّ الأمني نفسه، إمّا قتلاً أو تهميشاً. وفي كلّ مرّة، يتكرّر المشهد نفسه: بيانٌ مقتضب، صمتٌ ثقيل، وذاكرةٌ تُمحى.
تلك السلسلة ليست سوى ملامح لآليةٍ ثابتة: النظام الذي يربّي رجاله على الخوف، لا يحتمل أن يصبحوا هم مصدره. والسلطة التي بُنيت على الأسرار، لا تسمح لأحدٍ بأن يحملها معه إلى قبره من دون إذن.
اليوم، بعد أكثر من عقد على موته، لا يُذكر اسم جامع جامع إلا في الهوامش: في شهاداتٍ مبعثرة عن سنوات القمع، أو في روايات ضبّاطٍ صغارٍ يتحدّثون عن "الرجل الذي لم يكن يبتسم". لكن أثره يتجاوز تلك الشذرات.
لقد جسّد نموذج الضابط الذي اعتبره النظام مثالياً: مطيع، صامت، مخلص وقادرٌ على أن يختفي. نموذجٌ وُلد مع حافظ الأسد، ونضج في عهد بشار.
جامع جامع لم يكن جلاداً فحسب؛ بل مرآةً للمنظومة التي صنعته: منظومةٌ لا تتخلّى عن رجالها إلّا بعد أن تُفرغهم من كلّ أسرارهم. ولعلّ المفارقة الكبرى تكمن هنا: أن الرجل الذي قضى حياته يحرس أسرار الدولة… انتهى هو نفسه سرّاً من أسرارها.


