المصدر: الميادين
"بعت خاتم زواجي لتأمين اللقاحات لطفلي"، تقول أم محمود متأسفة على الأوضاع الصحيّة والمعيشية الصعبة السائدة في لبنان.
تسرد أم محمود بعضاً من الأحداث الصعبة التي رسخت في ذاكرتها، تقول إنها لم تكن تتخيل يوماً أن تواجه كل هذه التحديات من أجل تأمين اللقاحات لطفلها، خصوصاً في فترة انقطاعها مع بداية الأزمة الاقتصادية في لبنان.
"استدنت الكثير من المال ووصل بي الأمر في بعض المرات إلى إرسال براد صغير مع أحد معارفنا الى فرنسا لجلب لقاحات طفلي، حتى لا تفسد، فيما طلبت من أصدقائي المسافرين إلى تركيا شراء بعضها من هناك"، مشيرة إلى أن عدداً من هذه اللقاحات لم تكن متوافرة لدى وزارة الصحة.
ما حدث لأم محمود يكاد يحاكي أحداثاً مماثلة عن معاناة مشتركة لدى الأسر اللبنانية، التي وجدت نفسها على حين غرة وسط معركة جديدة من معارك الصمود التي تستنزف المرء في هذا البلد، وهي معركة البحث عن لقاحات يقدرون على شرائها بعدما هبطت قيمة رواتبهم مع انهيار العملة. لقاحات تقي أطفالهم أمراضاً جلّها خطير ومميت ومدمّر للصحة، وفق ما يؤكد العديد من أطباء الأطفال.
لقاحات الأطفال باهظة الثمن.. "وما باليد حيلة"!
"لم يكن ينقصنا في لبنان سوى غلاء لقاحات الأطفال الضرورية التي لا توفرها وزارة الصحة أساساً"، تقول زينب وهي أم لأربعة أطفال. تحكي بحرقة كيف تمكنت من إعطاء كل اللقاحات لثلاثة من أطفالها قبل الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالبلاد، بيد أنها عجزت عن تأمين اللقاحات لطفلها الأخير الذي لم يتخطّ عمره السنتان.
ولكن حتى اللقاحات الأساسية التي تؤمنها وزارة الصحة، لم يكن الوصول إليها ميسراً في كثير من الأحيان على حد شكاوي عدد من المواطنين. حسن واحد من هؤلاء، وهو أب لطفلين، أكد أنه وبعد غلاء اللقاحات الأجنبية بشكل جنوني في عيادات أطباء الأطفال، بات يتوجه إلى مراكز الرعايا الصحية التي تزودها الوزارة بلقاحات الأطفال، مشيراً إلى كارثة الضغط الكبير على هذه المراكز واكتظاظ بشري يجمع بين السوريين واللبنانيين على حد سواء. ويوضح قائلاً: "اضطررنا أكثر من مرة إلى تأجيل موعد أخذ اللقاح بعد إبلاغنا بنفاذ الكمية".
أما ريان، وهي أم لطفل واحد، تقول إنها تلجأ لطبيبها الذي يزوّدها باللقاحات التي تؤمنها الوزارة بشكل مجّاني، إلى جانب اللقاحات الأجنبية المستوردة من الشركات، ولكنها تضطر إلى حجز موعد قبل شهرين أحياناً. وتضيف: "مع استفحال أزمة المازوت في العامين الماضيين والتقنين الشديد للكهرباء، كان علينا الاستفسار عما إذا كانت اللقاحات تحفظ بشكل سليم في درجة حرارة معينة تقيها من التلف، لا سيما لقاحات الأطفال باهظة الثمن".
قبل الأزمة الاقتصادية في لبنان، لم يكن ثمّة أي لقاح باهظ الثمن، إذ كانت الدولة تدعم اللقاحات المستوردة لصالح العيادات الطبية الخاصة، تماماً كما تدعم الدواء وحليب الأطفال، ولكن بعد الأزمة، رفع الدعم كلياً عن اللقاحات الخاصة بالأطفال بلا استثناء، وذلك في تاريخ 11 تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2022.
منذ ذاك التاريخ، باتت أسعار اللقاحات تخضع في الواقع لتغير بالسعر حسب سعر صرف الدولار، الذي يتغير بشكل مستمر، ما يعني أن اللقاح الواحد قد يشهد ارتفاعاً في قيمته بالعملة اللبنانية الوطنية، كلما ارتفع سعر صرف الدولار.
كل ذلك أفرز واقعا يعيشه اللبنانيون تتباين فيه فرصهم بالحصول على الخدمات الطبية الضرورية. وينقسم هؤلاء اليوم بين من هو قادر على إعطاء اللقاحات الأساسية، وتلك الضرورية الإضافية لأطفاله، وبين اتخاذ خيارات أصعب لعدم توفر المال، فاكتفى البعض باللقاحات المجانية وغض آخرون الطرف عن اللقاحات غير المجانية.
من هنا، تطفو الى السطح مخاوف كبيرة من تراجع نسبة الإقبال على تلقيح الأطفال ومن ثم بروز سيناريو مخيف يتمثل بانتشار بعض الأمراض الخطيرة والمعدية، تماماً مثلما حدث في شمال لبنان الصيف المنصرم، مع تسجيل عشرات الإصابات بالتهاب الكبد الفيروسي فئة أ، مع الإشارة إلى أن لقاح هذا الفيروس على سبيل المثال غير متوفر لدى وزارة الصحة، فيما يبلغ سعره في العيادات الخاصة، والذي يؤمنه الوكيل الأجنبي مستورداً، ما لا يقل عن ثلاثين دولاراً.
خطر انتشار الأمراض المعدية
بحسب آخر إحصاء أعدته منظمة الأمم المتحدة للطفولة يونسيف في عام 2021، والذي ورد في تقرير لها صدر في نيسان/أبريل عام 2022، بعنوان "تفاقم الأزمة الصحية للأطفال في لبنان: آثار تدهور النظام الصحي في لبنان المباشرة وطويلة الأمد على الأطفال"، سجل لبنان تراجعاً في مستويات التحصين ضد الأمراض الانتقالية بنسبة 31%. هذا التراجع عزته المنظمة إلى انتشار جائحة كورونا والأزمة الاقتصادية التي عصفت بلبنان عام 2019.
يؤيد أطباء الأطفال هذه النتيجة، ويؤكدون أنهم عاينوا بشكل كبير تراجع الإقبال من قبل الناس على تلقيح أطفالهم، محذّرين من تداعيات خطيرة نتيجة فقدان اللقاحات، منها قريب الأمد ومنها بعيد الأمد.