المصدر: نداء الوطن
الكاتب: نجم الهاشم
الأربعاء 10 أيار 2023 08:00:36
قبل 15 عاماً، في 7 أيّار 2008، لم يكن من المتوقع أن تمتدّ الغزوة التي نفّذها «"حزب الله"» في بيروت والشوف وعاليه ضدّ "«تيار المستقبل"» و»"الحزب التقدمي الإشتراكي"» إلى أيّار 2023 من خلال الزيارة اللافتة برمزيتها للرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي إلى مقام السيدة زينب في دمشق. وإذا كان الأمين العام لـ»"حزب الله"» اعتبر أن يوم 7 أيار كان يوماً مجيداً، فإن ذلك اليوم جعله رئيسي واحداً من تاريخ طويل جاء يعلن النصر فيه.
مساء الأربعاء 3 أيّار الحالي، زار الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي مقام السيدة زينب في دمشق حيث نُظِّم له استقبال شعبي لافت بدلالاته. إذ لم تتعوّد سوريا في ظل نظام الأسد، أن تنظّم استقبالات شعبية لزوار من أي دولة كانوا حيث أنها لم تكن تسمح إلا بهتافات وحشودات تنادي بحياة الأسد الأب والأبن والنظام. طبعاً الرئيس الإيراني كسر هذه القاعدة بما له من مونة على رأس النظام، والنظام، الذي لم يستطع أن يستمرّ في احتكار هذا الإمتياز الذي متّع نفسه به منذ العام 1970. قبل ذلك في مرحلة الوحدة مع مصر، هتفت الجماهير السورية للرئيس المصري جمال عبد الناصر. بين الهتاف لعبد الناصر والهتاف لرئيسي ثمة تغيير كبير في وجه سوريا وتوجّهها.
إعلان النصر على من؟
خلال الإحتفال الشعبي الحاشد الذي نُظم له بعنوان «قاومنا ونبني معاً» حيّا رئيسي «شهداء الإسلام جميعاً وشهداء لبنان وسوريا والعراق وإيران وجميع الذين استشهدوا في سبيل إعلاء كلمة الحق». وأكد «أنّ سوريا بقيت شامخة وانتصر المجاهدون بعد 12 عاماً من الحرب». أضاف: «أقول لكم أيّها الإخوة والأخوات المقاومون إنّ سوريا بعد 12 عاماً، استطاعت أن تقاوم وتحقّق الانتصار. ونجتمع في مقام السيدة زينب لكي نقيم حفل الانتصار ونشكر الله سبحانه وتعالى على هذا الانتصار الكبير».
كان الرئيس الإيراني في احتفال النصر هذا كأنّه يحاكي احتفالات النصر التي لم يتوانَ أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله عن الإعلان عنها، وكان يرى طليعتها في بيروت منذ وصف غزوة 7 أيّار في العام 2008 بأنّها «يوم مجيد». منذ ذلك التاريخ لم تتوقّف أيام حزب الله «المجيدة». صحيح أنّ غزوة بيروت والجبل انتهت خلال أيام ولكنها استمرت بأشكال أخرى، حيث أنّ مشاركة «الحزب» في الحرب في سوريا لم تكن إلا امتداداً لعملية 7 ايار. فالسيد نصرالله أعلن أكثر من مرة أن المشاركة في الحرب السورية مهمة مقدسة وأنّ حزبه سيكون حيث يجب أن يكون وأنّه سيرسل المقاتلين للمشاركة في هذه الحرب وحتى لو اضطر إلى إرسال مئة ألف مقاتل وحتى لو اقتضى الأمر أن يذهب شخصياً إلى هناك فسيذهب.
إعلان الرئيس الإيراني النصر من مقام السيدة زينب له دلالاته الكثيرة. هذا المقام الذي يحمل طابعاً دينياً مقدساً عند المذهب الشيعي، كان الحجّة التي بدأت على أساسها عملية تدخّل «حزب الله» في الحرب السورية عندما أعلن الحرب دفاعاً عن هذا المقام «حتى لا تُسبى زينب مرتين». بعد ذلك أعلن الحزب أنّه يقاتل أيضاً دفاعاً عن اللبنانيين والسوريين الشيعة في القرى السورية المحاذية للحدود مع لبنان، وانتقل بعد ذلك إلى الحرب الشاملة من معركة القُصَير إلى سائر الجبهات حيث تكبد في هذه الحرب، التي قال رئيسي إنه انتصر فيها، أكثر من ألف قتيل بالإضافة إلى آلاف الجرحى والمعاقين.
كان بإمكان رئيسي أن يعلن هذا النصر من خلال مؤتمر صحافي مع رئيس النظام السوري بشار الأسد، أو من المسجد الأموي الكبير الذي زاره في اليوم التالي لزيارة مقام السيدة زينب برفقة وزير الأوقاف السوري قبل أن يقوم بجولة في سوق الحميدية. هذا المسجد التراثي التاريخي للمذهب السنّي كان أحد الرموز التي استُخدمت في بداية الحرب على سورية لإسقاط النظام، وقد هدّد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وعدد من قادة المجموعات الأصولية السنية المعارضة بالصلاة فيه بعد إسقاط النظام في سورية. ولكن رئيسي قد سبقهم إليه.
بين السيدة زينب والمسجد الأموي الكبير أعطت زيارته أبعاداً جديدة لمرحلة التحريض الطائفي والمذهبي، ومحاولة شيطنة الشيعة وإيران، والتركيز على أنّ إيران تستهدف السنة في سورية والمنطقة. تحدّث رئيسي عن إعادة إعمار سوريا بينما يتحدث معارضو النظام عن محاولة تغيير وجه سوريا من خلال «تشييع» السوريين وتغيير هويات المناطق والإصرار على عدم السماح للنازحين بالعودة وتشتيتهم في الدول المجاورة. وكأن الحرب في مسارها ونتائجها كانت تدور بين عنوانين كبيرين: مقام السيدة زينب والمسجد الأموي الكبير. خصوصا أن بين الشيعة والخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد ثأراً لا تمحوه الأيام.
مسار بدأ باغتيال الحريري
إعلان رئيسي الإنتصار من مقام السيدة زينب لا يمكن فصله عن المسار الذي بدأ مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري في بيروت في 14 شباط 2005، وعن غزوة بيروت والجبل في 7 أيار 2008. بعد اغتيال الحريري بدأت التسريبات التي تتهمه بأنّه كان يحاول التدخل في سوريا لقلب النظام ضد الرئيس بشار الأسد، وبأنّه انتظر وفاة الرئيس حافظ الأسد ليبدأ «مؤامراته». وأنّه كان يتحالف مع نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام ورئيس هيئة الأركان العامة في الجيش السوري العماد حكمت الشهابي لإحداث هذا التغيير الذي أعطي طابع الصراع بين السنة والعلويين، ومعهم الشيعة.
وذهبت التسريبات إلى حدّ اعتبار أنّ رئيس المخابرات السورية السابق في لبنان، اللواء غازي كنعان، انضم إلى هذا «التحالف» وكان يهمل التقارير التي يرسلها نائبه، اللواء رستم غزالة من بيروت ويرميها في سلة المهملات، وأنّه نسّق مع الحريري حتى أمّن فوزه في انتخابات العام 2000 بعد وفاة الأسد الأب، وتعاون لاحقاً مع لجنة التحقيق الدولية في اغتيال الرئيس الحريري قبل أن ينتحر في ظروف بقيت غامضة وأقرب إلى عملية تصفية دبّرها النظام بعد نقله إلى سوريا وتعيينه وزيراً للداخلية.
عملية 7 أيار 2008 لم تكن انقلاباً نفّذه «حزب الله» ضدّ «تيار المستقبل» و»الحزب التقدمي الإشتراكي» فقط، بل انقلاباً ضد النظام الذي نتج عن اغتيال الرئيس رفيق الحريري وأوصل إلى مجلس النواب أكثرية موالية لقوى 14 آذار التي كانت تقوم على ثلاثة أعمدة مسيحية وسنية ودرزية، وضد التحقيق الدولي في اغتيال الرئيس الحريري وضد المحكمة الدولية التي تشكلت للحكم في هذه القضية التي توجّهت فيها الإتهامات إلى «حزب الله» والنظام السوري معاً.
بعد اغتيال الحريري لم يكن «الحزب» في وارد السماح بتكوين أي قوة يمكن أن تقف في وجهه. لذلك كان أمينه العام السيد حسن نصرالله يعلن باستمرار أنّه سيقطع اليد التي تمتدّ إلى سلاحه وصولاً إلى معادلة أن السلاح يحمي السلاح. هذه المعادلة التي طبّقها في بيروت والشوف وعاليه هي نفسها التي جعلته ينتقل إلى سوريا للقتال هناك، وكأن الساحتين اللبنانية والسورية ساحة واحدة من ضمن استراتيجية وحدة الساحات التي وصل إليها أخيراً، وتضم العواصم التي أعلن باسمها رئيسه رئيسي النصر من مقام السيدة زينب في دمشق.
بهذا المعنى يمكن اعتبار أنّ مفاعيل عملية 7 أيار مستمرّة. فهي كانت عملية انقلاب على نتائج انتخابات العام 2005 وعلى حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، بعدها أحكم «الحزب» قبضته على السلطة في لبنان نتيجة تسوية الدوحة التي أعطته الثلث المعطّل في الحكومة بالإضافة إلى وزراة المالية، وجعلته مع حركة «أمل» يحتكران التمثيل الشيعي ويفرضان الأسماء والحقائب. وهو لم يكتفِ بذلك، بل نفّذ انقلاباً ثانياً مع حليفه العماد ميشال عون ضدّ الرئيس سعد الحريري في كانون الثاني 2011 وضدّ نتائج انتخابات العام 2009 التي أعطت الأكثرية لقوى 14 آذار، وفرض تسمية نجيب ميقاتي رئيساً للحكومة بعدما كان وافق في الدوحة على أن يبقى الحريري في السراي ونكث بهذا الوعد. وقد أتى هذا الإنقلاب قبل ثلاثة أشهر من بدء الإنتفاضة السورية ضد نظام الأسد في درعا في 15 آذار 2011. منذ ذلك التاريخ وجد «حزب الله» أن ما حاول القضاء عليه في بيروت قد بدأ يولد في دمشق وحمص وحلب وإدلب...
تأكيد مفاعيل 7 أيّار
بعد 12 عاماً على الحرب السورية جاء رئيسي يعلن النصر من مقام السيدة زينب بينما يستعد بشار الأسد للعودة إلى جامعة الدول العربية. لم يتوانَ نصرالله عن استخدام هذا «الإنتصار» لتأكيد مفاعيل عملية 7 ايار. صحيح أنّه يعلن أنه لن ينجرّ إلى حرب أهلية لا يريدها، ولكنّه في الواقع يثبّت نتائج الحرب الأهلية بالتهديد المستمر بالسلاح. فهو لم يسقط معادلة السلاح يحمي السلاح. وهو يوسّع دائرة استخدام هذا السلاح. وقوة هذا السلاح حاضرة في خطاباته وفي سياسته، وعلى الأرض، وفي طريقة تعاطي أتباعه مع المكونات اللبنانية ولغة التهديد التي يتحدّثون بها.
ويطبّق مفاعيل 7 أيّار في عرقلته عمل الدولة وتكريس وصايته عليها وعلى قرارات السلم والحرب وكأنّها غيرموجودة إلا على الورق. ويطبقها في منع انتخاب رئيس للجمهورية غير الشخص الذي يرشّحه ويتمسّك بترشيحه على طريقة اختيار العماد ميشال عون في العام 2016 بعد تعطيل الدولة منذ انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان في 25 أيار 2014، بحجة أنه لا يريد رئيساً يطعن «الحزب» في الظهر. وبهذا السلاح يمنع التحقيق في جريمة تفجير مرفأ بيروت ويستقوي على القضاء ويطالب بقبع المحقق العدلي القاضي طارق البيطار، ويتحكم بمسارات أمنية كثيرة في الداخل ويعترض على دور الجيش وقيادته.
بعد 15 عاماً على 7 أيار يتصرّف «الحزب» وكأنه دائماً في 5 أو في 6 أيّار. ويوحي من دون أن يعلن، كأنه على استعداد لشنّ حرب لا تنتهي ضد كل من يعارضه أو يمكن أن يقف في وجهه. ولكنّه في الواقع وبعد سلسلة حروبه السورية والعراقية واليمنية، يدرك أنّ هذه المعارك التي خاضها وهذه الإنتصارات التي يعلن عنها عجزت عن تحكّمه بالسيطرة. أكبر دليل إلى ذلك نتائج انتخابات أيار 2022 التي أخذت منه الأكثرية النيابية حتى لو لم تكن هناك أكثرية واضحة في المقابل. وهو يدرك في النتيجة أن السلاح والتهديد به لا يمكنه أن يؤمّن له هذه السيطرة الدائمة. وهو يعرف أنه حتى في سوريا لا يمكن نقل المشهد من الجامع الأموي الكبير إلى مقام السيدة زينب.