المصدر: نداء الوطن
الكاتب: شربل صفير
السبت 26 نيسان 2025 06:53:36
في 26 نيسان 2005، انسحب الجيش السوري من لبنان تحت ضغط الشارع، وتحت وطأة دم الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وزخم انتفاضة شعبية كسرت حاجز الخوف.
بعد عشرين عاماً، يظهر أن ما حدث لم يكن نهاية وصاية بقدر ما كان تبديلاً للقيّمين عليها. غادرت قوات الأسد وأقفلت ثكناته، لكن الاحتلال بقي بصيغته الأخطر: مصادرة القرار، خنق السيادة وتمدّد النفوذ الإيراني عبر أدواته العسكرية والسياسية.
لم يكن الانسحاب السوري ترجمةً لرغبة دمشق، بل انصياعاً مُرّاً لإرادة اللبنانيين ودينامية دولية فرضت الخروج. لكن هل تحرّر لبنان فعلاً؟ أم أننا سلّمنا وصاية نظام الأسد إلى وصاية إيرانية متغلغلة؟
وربما المفارقة الأبلغ بعد مرور عشرين عاماً على انسحاب الجيش السوري من لبنان، أن النظام الذي فرض الوصاية على القرار اللبناني لعقود طويلة، قد سقط هو نفسه في عقر داره. فالنظام السوري الذي حكم البلاد بالحديد والنار تَشظّى، وتغيّر وجه سوريا، لتدخل في مرحلة جديدة عنوانها التعدد في مراكز القرار، وتآكل قبضة السلطة المركزية.
وفي هذا السياق، جاءت الزيارة الأخيرة لرئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام إلى دمشق ولقاؤه بالرئيس السوري أحمد الشرع، لتكرّس تحوّلاً لافتاً في شكل العلاقة بين البلدين. إذ صدر عن الزيارة بيان مشترك يؤكد العزم على "فتح صفحة جديدة" من العلاقات الثنائية، تقوم على أسس الاحترام المتبادل، واستعادة الثقة، وحسن الجوار، والتأكيد على السيادة الكاملة لكل من الدولتين، ورفض أي شكل من أشكال التدخل في الشؤون الداخلية.
علوش: الاحتلال تغيّر... لكنه لم ينتهِ
يقول النائب السابق مصطفى علوش لـ "نداء الوطن"، إن ما تغيّر هو الشكل، لا الجوهر... في زمن الاحتلال السوري، كان القرار السيادي مخطوفاً، واليوم لا يزال مخطوفاً لكن بأدوات مختلفة. يضيف: "الوصاية الإيرانية حلّت محل السورية، وبات القرار اللبناني يُصاغ في طهران ويُترجم عبر "حزب الله"، الذي يحتكر السلاح ويمنع قيام دولة فعلية".
يؤكد علوش أن لبنان يعيش تحت وطأة احتلال ناعم، أكثر تعقيداً من الاحتلال السوري. "عندما نرى السفير الإيراني يجلس إلى طاولة تفاوض جنباً إلى جنب مع السوريين، كطرف نِديّ، ندرك تماماً إلى أين وصلنا من التبعية".
ويشدّد علوش على أن استعادة السيادة، تتطلب أن يكون السلاح بيد الدولة حصراً، وأن تعود مؤسسات الدولة مرجعية وحيدة لكل اللبنانيين، ويسأل: "اليوم هناك سلطات متعددة، وحدود سائبة، ومؤسسات مخترقة. فهل يُسمّى هذا تحريراً؟
عطالله: لبنان لم يتحرّر... بل استُبدلت الوصاية
يذهب رئيس حركة اليسار الديمقراطي، إلياس عطالله، إلى ما هو أبعد. فهو لا يرى في انسحاب الجيش السوري "تحريراً" بالمعنى الحقيقي. "ما حدث كان استبدالاً لهيمنة بأخرى"، يقول بصراحة لافتة لـ "نداء الوطن".
ويشرح عطالله أنّ النظام السوري، بالتنسيق مع النظام الإيراني، أسّس في البقاع عام 1980 فصيلاً تابعاً للحرس الثوري الإيراني، أصبح لاحقاً نواة "حزب الله". "هذا الحزب هو الامتداد الطبيعي لطبيعة النظام الأسدي — أمني، ديكتاتوري، طائفي ومعادٍ لفكرة الدولة".
ويتابع: "حزب الله" أكمل ما بدأه حافظ الأسد من مشروع تفكيك الدولة اللبنانية. المشروع واضح، تدمير المؤسسات، منع بناء الدولة، ومحو الكيان اللبناني عبر منطق شعب واحد في دولتين، أي ابتلاع لبنان في جسم السلطة السورية آنذاك، والسلطة الإيرانية اليوم".
ويضيف: "ما مارسه "الحزب" منذ نشأته هو عملية تخريب منهجية: اغتيالات، كمّ للأفواه، اغتصاب القرار الوطني، ترهيب الخصوم وتحييد لبنان عن محيطه العربي. الدولة تُقتل من داخلها، وتتحوّل إلى أداة معادية لشعبها ولدستورها".
حدودٌ سائبة... وسيادة مغتصبة
بعد مرور عشرين عاماً على الانسحاب، لا تزال الحدود اللبنانية السورية تشكّل خرقاً فاضحاً للسيادة الوطنية. المعابر غير الشرعية منتشرة، والتهريب على أنواعه لا يتوقف، والتسلل المسلح متواصل، فيما الطيران الإسرائيلي يضرب مواقع إيرانية داخل لبنان دون رادع.
تلك الحدود التي كان يُفترض أن تُضبط بعد الانسحاب، تحولت إلى خطوط نار، لا خطوط سيادة. لا ترسيم واضح، لا رقابة رسمية، ولا حتى نية سياسية لمعالجة هذه الفجوة. "الواقعية السياسية" أصبحت غطاءً لتقاسم النفوذ، وتكريس الفوضى كأمر واقع.
لا حرية بلا قرار... ولا سيادة بلا دولة
خروج قوات الأسد من لبنان شكّل لحظة مفصلية، لكنه لم يكن نهاية الاحتلال. فالتحرر لا يُقاس بانسحاب جنود، بل باستعادة القرار الوطني، وبناء دولة قوية، واحتكار الشرعية والسلاح في يد الجيش اللبناني.
في الذكرى العشرين، لا نحتاج إلى احتفالات وشعارات، بل إلى مواجهة حقيقية مع الوقائع. نحتاج إلى مشروع وطني يعيد بناء الدولة من تحت الرماد.
أما آن للبنان أن يستعيد نفسه من براثن الاحتلال المستتر؟ أما آن للأرض أن تتحرّر فعلاً... لا شكلاً فقط؟