406 صناديق اتهامات مخفية في مدينة أوروبية... محاكمة تاريخية منتظرة للأسد

وصلت نشوة سقوط نظام بشار الأسد إلى ذروتها، وانتقل ثقل الاهتمام نحو قضايا رئيسية مرتبطة بالانتقال السياسي من جهة، ومحاسبة النظام السوري على جرائم استمرّت لأكثر من خمسة عقود من جهة أخرى. وإذا كانت المرحلة الانتقالية قد بدأت، فإن مشوار العدالة الفعلي لم يأخذ مساره بعد، كون كبار المسؤولين السوريين فرّوا من البلاد.

لكن فرار المسؤولين السوريين سريعاً، وعلى رأسهم الأسد، بعد الانهيار المفاجئ وغير المتوقع للنظام، كان عاملاً إيجابياً لجمع المزيد من الوثائق والإثباتات التي تؤكّد ارتكاب النظام السوري انتهاكات، ولم يكن هناك وقت لإتلافها، لتُضاف إلى الوثائق المجموعة داخل سوريا وخارجها، والتي تُدين الأسد وكبار مسؤوليه.

عمل النظام السوري على مأسسة الانتهاكات، وكانت الارتكابات عبارة عن عملية بيروقراطية تصل في نهاية مطافها إلى مكتب الأسد الذي يوافق أو يُعارض، وبالتالي فإن المسؤولين عن عمليات التعذيب والقتل كُثر. وفي هذا السياق، تُشير صحيفة "صنداي تايمز" البريطانية إلى بدء حملة عالمية لتعقب أتباع الأسد الذين نفذوا أحكامه في سوريا.

مأسسة الارتكابات تمثّلت بملفات أُنجزت داخل مؤسساته الأمنية، منها ما هو موجود داخل فرع 322 في حلب وفق ما تكشف صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، يعود تاريخها إلى الأشهر الأولى من انتفاضة عام 2011، تُظهر كيفية تعاطي النظام السوري وأجهزته الاستخباراتية مع التظاهرات. وهي ملفات في فرع واحد من مئات الفروع التي اعتقلت متظاهرين واستجوبتهم.

وإذ نجح الأسد في الفرار وحماية نفسه مبدئياً عبر التوجّه نحو روسيا، فإن الآلاف من الضباط في أجهزته العسكرية والأمنية كانت احتمالات هروبهم أقل، ومنهم من اختبأ داخل سوريا، ومنهم من هرب إلى لبنان والعراق، كون إدارة العمليات العسكرية أعلنت نيتها محاسبتهم، وبدأت باعتقال من عرفت بوجودهم داخل سوريا.

من تمكّن من الخروج من سوريا لن يجد ملاذاً آمناً في الخارج، لأن المحاكم الأممية والدولية ستكون بالمرصاد، والملفات محضّرة، إذ وفق "صنداي تايمز"، فإن أربعمئة وستة صناديق كرتونية بنّية اللون موضوعة خلف باب مغلق في مكتب بلا اسم في مدينة أوروبية، فيها أكثر من 1,3 مليون وثيقة قد تضع الأسد وأتباعه خلف القضبان مدى الحياة.

تعود هذه الصناديق التي تؤرشف ارتكابات الأسد ونظامه على مدى الـ13 عاماً الماضية للمحامي الكندي ومحقق جرائم الحرب بيل وايلي وفريقه المؤلّف من سوريين على الأرض خاضوا مخاطر قاتلة، وتنكّروا بهيئات مختلفة، منهم رعاة وتجّار، واستخدموا أدوات نقل عديدة بينها شاحنات ومروحيات، وقُتل أحدهم وأُصيب آخر واختُطف ثالث، بهدف جمع الأدلة وتهريبها.

المخاطر كانت كثيرة، وحساسية بعض الوثائق والخوف من خسارتها حتّما إخفاءها داخل سوريا لعدم القدرة على نقلها، لكن ما أُخرج مُسح رقمياً وحلّلته لجنة العدالة والمساءلة الدولية (CIJA)، المموّلة من الحكومات البريطانية والألمانية والأميركية، وعلى رأسها وايلي الذي يعتبر "هذا القمع هو الأكثر توثيقاً في التاريخ. مثل النازيين ولكن باستخدام الكمبيوتر".

يفتح وايلي الصناديق ليكشف عن خرائط وأوراق، العديد منها ممهورة بشعار النظام السوري أو ختمه، أو موقعة من الأسد وغيره من كبار المسؤولين، وتحكي هذه الوثائق قصّة "دكتاتورية نفذت خلال خمسين عاماً الاعتقالات والإعدامات والإخفاءات والاعتداءات الجنسية وضربات الأسلحة الكيميائية على شعبها"، وفق "صنداي تايمز".

يصف وايلي الوضع في سوريا بـ"النادر للغاية"، كون النظام السوري سقط وترك خلفه أدلّة تُدينه يُمكن جمعها "كما حصل في ألمانيا النازية عام 1945 والعراق عام 2003". ويقول إن القضية "سوف تكون أكبر بكثير من نورمبرغ"، وهي واحدة من أكبر المحاكمات في التاريخ، حوكم فيها 21 من كبار القادة النازيين آنذاك.

وإذ يصف محمد العبد الله، وهو سجين سابق أسس مركز العدالة والمساءلة السوري في واشنطن، عملية ارتكاب الانتهاكات بـ"آلة القتل البيروقراطية"، يتحدّث وايلي عن دور الأسد الذي كان يُصدر قراراته بعد "الاطلاع على محاضر اجتماعات خلية إدارة الأزمة المركزية المسؤولة عن التعامل مع الانتفاضة، وتناقش استراتيجيات سحق المعارضة".

ورّط الأسد من خلال العملية البيروقراطية قادة وعناصر أجهزة الأمن والمخابرات، ومن بين هؤلاء شخصيات رئيسية مثل ماهر الأسد الذي قاد الفرقة الرابعة، بالإضافة إلى علي مملوك، الرئيس السابق لمكتب الأمن الوطني، وجميل حسن، رئيس مخابرات القوات الجوية، حسب "صنداي تايمز"، بالإضافة إلى العديد من الأسماء غير المذكورة.

وثائق وايلي قد تكون مساراً نحو محاكمة الأسد ونظامه، ووفق تقرير الصحيفة البريطانية، تم استخدام وثائق لجنة العدالة والمساءلة الدولية في 13 قضية في جميع أنحاء العالم ضد مسؤولين في النظام، بعضها غيابياً، لكنّ ثمّة تحدياً قضائياً مرتبطاً بالمحاكمة الأممية، فسوريا ليست من الدول الموقّعة على اتفاقية المحكمة الجنائية الدولية.

المحامية المتخصّصة في القانون الدولي الجزائي والأستاذة الجامعية ريتا عيد تقول إن الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة وجرائم الحرب من صلاحية المحكمة الجنائية الدولية، لكن الطريقة الوحيدة لتحويل الدعوى للمحكمة الجنائية الدولية هي عبر مجلس الأمن، كون سوريا لم توقّع على نظام إنشاء المحكمة، وبالتالي لا يُمكن للنظام الجديد الادعاء، لكن المشكلة تكمن في هذا السياق بروسيا والصين كونهما يتمتعان بحق الفيتو.

وفي سياق هرب مسؤولي نظام الأسد إلى عدد من الدول بينها لبنان، ورداً على سؤال عن إلزامية تسليمهم في حال صدور قرارات عن المحكمة الجنائية بحقهم، تعود عيد في حديثها لـ"النهار" إلى الطريقة الوحيدة التي قد تصدر بحقهم قرارات، وهي عبر تحويل مجلس الأمن الملف إلى المحكمة، وعندها يطلب المجلس من الدول التعاون يصبح لزاماً على الدول تسليم المتهمين وإلّا مواجهة العقوبات.

لكن دون طلب مجلس الأمن التعاون، فإن إلزامية التعاون مع المحكمة الجنائية هو نظري بالنسبة للدول الموقعة على النظام الأساسي للمحكمة، حسب عيد، ولا يُمكن للأخيرة إجبار أي طرف على التعاون معها وتسليم المطلوبين، وتُذكّر بأن لبنان لم يوقع على النظام الأساسي للمحكمة، وبالتالي لا يُمكن إلزامه بتسليم مسؤولي النظام السوري السابق في لبنان إلّا عبر ضغط مجلس الأمن.

في المحصّلة، فإن العدالة الإلهية تحقّقت بعد سقوط نظام بشار الأسد، لكن ثمّة من يُريد العدالة القضائية ومحاسبة الأسد وكل من شارك في الانتهاكات الموثّقة في السجون والأفرع الأمنية وحتى الشوارع التي شهدت إطلاق نار على المتظاهرين، إنما المحاسبة الغائبة عن إسرائيل التي ترتكب المجازر في غزّة قد لا تحضر مع الأسد، فتبقى القضية بعهدة العدالة الإلهية.