المصدر: نداء الوطن
الكاتب: زيزي اسطفان
الاثنين 25 آذار 2024 08:00:25
صورة طيور اللقلق البيضاء وهي ترتاح على أغصان أشجار الصنوبر في حرج حاريصا شكلت فرحة للعيون، كما شكّل قبلها الفيديو المتداول لمجزرة الطيور العابرة بالأسلحة الحربية صدمة للعقول. فكيف يتساوى الجمال والقبح على أرض واحدة؟ الخبراء يجزمون أنه لو عرف الناس قيمة الطيور لما تجرأوا على التطاول عليها. قوى الأمن تقوم بواجباتها حين تعرف بالمخالفة ووزير البيئة متعاون لكن عين الدولة بصيرة ويدها قصيرة وقاصرة، والجهود والإمكانيات أقل بكثير مما هو مطلوب لحماية الطيور.
خضة في وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل، وبيئيون يطرحون الصوت وينادون بالفضيحة كلما نشر أحدهم صورة لأكوام طيور اصطادها وعرضها كغنيمة يتباهى بها. لكن ما يحدث في الخفاء وبعيداً عن أعين الكاميرات في حق الطيور العابرة والمفرّخة والمقيمة في لبنان يرتقي الى مصاف جريمة بيئية مستمرة يتم تجاهلها لأسباب كثيرة، ليس أقلها غياب الوعي والتوعية عن الدور الكبير الذي تلعبه الطيور في النظم البيئية، وصولاً الى عدم القدرة على مراقبة الصيد الجائر الذي يفتك بالطيور.
صرخة إلى وزير البيئة
يُعتبر لبنان بحسب الاختصاصيين ثاني أهم ممر للطيور المهاجرة التي تعبر في الخريف من أوروبا نحو تركيا وسوريا وتتابع طريقها نحو أواسط أفريقيا لتستعيد طريق الهجرة ذاته في الربيع. ويضيق الممر في لبنان لا سيما عند مدخلي عكار العتيقة والقاع ليتحول إلى ما يشبه عنق الزجاجة الذي تعبر من خلاله الطيور بأعداد كبيرة، وهناك ما يقارب 360 نوعاً تعبر في مواسم الهجرة، بعضها بأسراب كبيرة مثل اللقلق والبجع والعقبان والصقور، وبعضها شارد بأعداد أقل ومن بينها الطيور الجارحة مثل البواشق والنسور والصقور. وهذا المرور الكثيف يجعل الصيادين يتهافتون الى هذه المناطق بالذات لأخذ راحتهم والفتك بالطيور العابرة والتباهي بأعداد ما تم اصطياده منها، والبعض القليل لتناول لحمها لا سيما إذا كانت من النوع الذي يتغذى من العسل. «لا يمكن إلقاء اللوم على الناس»، يقول أدونيس الخطيب رئيس مركز الشرق الأوسط للصيد المستدام والمنسق الميداني للصيد المسؤول في جمعية حماية الطبيعة في لبنان. فهؤلاء لا يعرفون أهمية الطيور العابرة ولا توعية حقيقية بشأنها لا بل يشكل عبورها حافزاً لهم لاصطيادها، كونها باعتقادهم ليست طيوراً محلية ولا تفيد لبنان بشيء. وقد رأينا مؤخراً كيف يصطادون اسراب اللقلق بأسلحة حربية. قوى الأمن تحاول تطبيق القانون وتوقف اشخاصاً وتجعل آخرين يوقعون على تعهد بعدم الصيد الجائر، حتى أن بعض الجرائم ضد الطيور تظهر على السجل العدلي...».
البيئيون يوجهون السهام إلى الصيادين الذين يقدر عددهم بحوالى 600000 صياد وهم لا شك يحمَّلون مسؤولية كبيرة، لا سيما من كان منهم «قواصاً» يسعى الى بطولات وهمية على حساب الطيور لا صياداً حقيقياً يحترم البيئة ويلتزم بالقوانين. من هنا يقول الخطيب إن التشدد في تطبيق القانون يخفف من «الاستعراضات» وتفاعل الناس مع أبطالها، كما أن حملات التوعية تساعد على فهم أفضل لدور الطيور وأهمية الحفاظ عليها. لكن لأدونيس عتب على وزير البيئة الذي منع الصيد القانوني تماماً منذ ثلاث سنوات وترك الساحة لـ»القواصين» ليرتكبوا مجازرهم من دون اية رقابة. «سابقاً كنا نحن كصيادين مسؤولين نراقب خلال موسم الصيد الممتد من 11 أيلول الى 15 شباط واقع الأرض والسماء والطيور، ونبلّغ عما نراه من مخالفات لكن مع منع الصيد بات يصعب علينا ذلك. لو قمنا مع الوزير بتصرف حضاري مع حملات توعية وتشديد في تطبيق القانون لكنا وصلنا الى نتيجة أفضل. وهنا أتوجه الى الوزير ياسين لأقول: أجلب الصيادين الى جنبك ولا تحاربهم لأنهم عون لك في وجه الصيد غير الشرعي. إقفال باب الصيد خسّر الدولة مبالغ كبيرة بسبب عدم منح رخص الصيد، هذه الرخص التي كان يمكن الإستفادة من مردودها لأمور بيئية مفيدة».
بين منطق الطير ومنطق البشر
ما يصيب الطيور العابرة يتخطى قصة الصيد بحسب ما يشرحه لـ»نداء الوطن» فؤاد عيتاني رئيس جمعية حماية الطيور في لبنان، فعوامل كثيرة تساهم في الضرر، الى جانب الصيد الجائر للطيور المحمية والمهددة بالإنقراض، منها التلوث، فقدان موائل الطيور بسبب اجتياح البناء وتراجع الأحراج، ارتفاع أبراج الاتصالات، خطوط التوتر العالي، مراوح الطاقة، استخدام المبيدات الزراعية والتغيير المناخي. ويضيف عيتاني أن أهمية الطيور العابرة لا يتنبه لها معظم الناس بسبب نقص التوعية حول الموضوع، لأن بعض أنواعها مثل اللقلق والعقبان والصقور تقضي على الجراد والحشرات والقوارض التي تفتك بالمحاصيل الزراعية خلال عبورها النهاري، وكذلك تفعل الطيور التي تعبر ليلاً مثل البومة. وثمة طيور عابرة، مثل النسر الأسمر والنسر المصري والأسود، تقوم بتنظيف الطبيعة من جيف الحيوانات النافقة، أما الطيور الأصغر فتقضي على الحشرات والديدان فتخفف بذلك من الحاجة الى استخدام المبيدات وتعزز بالتالي نوعية الخضار وصحتها، فالسنونو مثلاً او طائر الخطّاف هي طيور تأكل ما يعادل وزنها من البرغش، أما الصلنج وأبو زريق فتأكل الحشرات الضارة التي تفتك بشجر الأرز واللزاب والسنديان، فيما طيور الهدهد والمنجال والوقواق فتقضي على دودة الصندل الضارة التي تصيب الصنوبر.
وفي حين يتعامل البشر بقسوة مع الطير للتسلية والتجارة فإن الطير على عكسهم يغدق عليهم منافع كثيرة. ويشرح الخبير فؤاد عيتاني فائدة ما تقوم به بعض أنواع الطيور الى جانب القضاء على الحشرات والحفاظ على الأنظمة البيئية، عدا عن أن الطيور الصغيرة تساهم في إعادة تشجير غابات لبنان، فالكيخن مثلاً يبتلع بذور اللزاب في معدته ليفرغها من جديد في مكان آخر فتنمو وتكبر، أما ابو زريق فيخبئ البلوط الذي تحمله شجرة السنديان في أمكنة من التراب ليأكلها متى احتاجها، لكنه يترك الكثير منها فتنمو وتتحول الى شجيرات. ويمكن القول إن 30% من الطيور الصغيرة مسؤولة عن تلقيح الأزهار مثلها مثل النحل
وبالتالي عن استمرارية الحياة...
إنخفاض الخطر لكنّ الطريق طويل
«مكافحة الصيد الجائر أتت بنتائج وإن لم تكن على المستوى المطلوب»، يقول ادونيس الخطيب، وقد أظهرت منظمة مكافحة إبادة الطيور ان نسبة النجاح وصلت الى 80% في بعض المناطق وفي عكار العتيقة والضنية والعريضة مثلاً تراجع الخطر من 150% الى 50% بالنسبة الى مكافحة صيد الطيور العابرة، وفي البقاع الغربي أنجزت الجمعيات عملاً جباراً وحققت نجاحاً وصل الى 90% بالتعاون مع حملات لقوى الأمن الداخلي.
قانون الصيد اللبناني يضع لائحة بالطرائد المسموح اصطيادها وكلها من الطيور العابرة ولا يتعدى عددها 13 طريدة من بين 420 طيراً مقيماً وعابراً في لبنان، ويحدد الأعداد التي يمكن اصطيادها يومياً من كل نوع وقد تتبدل هذه اللائحة إذا كان الطير مهدداً بالانقراض او محمياً. كما يمنع القانون الصيد ليلاً و»هنا تتشكل المجازر»، كما يؤكد كل من عيتاني والخطيب. فالصيادون يلجأون ليلاً الى الأماكن التي تعتبر مداخل للطيور العابرة مثل السمن والصلنج والمطوق ويصطادونها بأعداد كبيرة. فهذه الطيور الصغيرة تفضل التنقل ليلاً حين تكون الحرارة أقل، لأنها لا تستفيد كما الطيور العابرة الكبيرة من تيارات الهواء الساخنة التي تتصاعد من الوديان وفوق البحر لتحلق بسلاسة ودون جهد كبير. ومن الممرات المعروفة في لبنان بكفيا، الغينة، شحتول وأغبة «التي كانت مقبرة للطيور الجارحة لولا جهودنا»، يقول أدونيس الخطيب. وتمر كذلك فوق البحر لتستفيد من الهواء الساخن. ومن غرائب الأمور ان الطيور تعتمد على خريطة مغناطيسية في عينيها، كما يشرح الخطيب، التي تتفاعل مع جاذبية الأرض لتحديد مسارها وهذا ما يعتبر عجيبة من عجائب الطبيعة، حتى أنها تغير مسارها فوق أمكنة الخطر والخوف والضجة الكبيرة مثل الانفجارات، وهذا ما تم رصده خلال الحرب السورية.
ذكاء الطيور يقابله مكر البشر، ففي عتمة الليل يلجأ الصيادون الى وسائل يمنعها القانون لاصطياد أكبر عدد من الطيور لا سيما أن الأزمة الاقتصادية وارتفاع سعر خرطوش الصيد جعلهم يستبدلون بنادق الصيد بوسائل أرخص لكن اشد اذى، ومنها الشباك التي تقع فيها عشوائياً أنواع مختلفة من الطيور المهاجرة والمقيمة والمحمية، كما واستخدام أشعة اللايزر لتعمية الطيور او ماكينات الصوت لجذبها والرسم على الجدران لإخافتها...
ثروة بيئية مهدورة
لبنان يملك ثروة بيئية مجهولة من معظم أهله فهو غني بـ420 صنفاً من الطيور التي تتوزع بين طيور عابرة تمر فوقه، وأخرى تمضي الشتاء فيه أو الصيف لتفرخ صغارها إضافة الى طيوره المقيمة مثل البلبل والحجل والدوري والحسون والشحرور. ويعود هذا التنوع الى تنوع المناطق اللبنانية بين جبلية وساحلية وشبه صحراوية كما في رأس بعلبك وهي تؤمن موائل مختلفة للطير، وهذا الغنى، برأي عيتاني ومحبي البيئة، يمكن ان يتحول الى مادة سياحية بيئية تجتذب البيئيين والباحثين ومحبي الطبيعة والتصوير، شرط ان يحافظ لبنان على طيوره ويحترم الاتفاقيات المعقودة مع الدول الأوروبية لحماية الطيور العابرة وأبرزها طائر اللقلق الذي يعتبر رمزاً لدولة بولندا. وقد سعى لبنان قبل ازماته لعقد اتفاقية حماية اللقلق مع بولندا أيام وزير البيئة الاسبق فادي جريصاتي والتي ساهمت بتراجع صيد هذا الطائر بشكل كبير، لكن مع تبدّل الأولويات وتراكم الأزمات تمّت إشاحة النظر عن المراقبة وعادت الطيور العابرة الى دائرة الخطر.