المصدر: المفكرة القانونية
الكاتب: بشير مصطفى
الثلاثاء 5 تشرين الأول 2021 10:21:05
مرّ أكثر من شهر ونصف الشهر على انفجار التليل، ولا يزال محمد حسن حاويك وأحمد بدر المحمد قابعين في مستشفى السلام في طرابلس الذي استقبل في الخامس عشر من آب عشرات المصابين من جرّاء الانفجار
كتب بشير مصطفى في المفكرة القانونية: مرّ أكثر من شهر ونصف الشهر على انفجار التليل، ولا يزال محمد حسن حاويك وأحمد بدر المحمد قابعين في مستشفى السلام في طرابلس الذي استقبل في الخامس عشر من آب عشرات المصابين من جرّاء الانفجار. أخبار إيجابية تخرج من الطابقين الثامن والتاسع، فحال أحمد ومحمد تجاوزت مرحلة الخطر، وبدأ الأوّل يأكل للمرّة الأولى منذ إصابته من دون “شليمون”، فيما بدأ الثاني بتحريك أطرافه العلوية. وهي تطوّرات صحّية تشي بأنّ الصعب قد مضى ولكن ثمّة حاجة لفترة علاج إضافية، لذلك لا يمانع الإثنان إن كانت طويلة أو قصيرة. أمّا حالهما النفسية فهي تتحسّن أيضاً ولكن ببطء فصورة “الليلة الكابوس” لا تزال موجودة على جسديهما وفي ذاكرتيهما، والأمر ربما يحتاج حسب ما يقولان إلى الإرادة والوقت والأمل الدائم بالعودة إلى حياة “طبيعية”.
محمد احترق كامل جسده وخسر شقيقيه
بابتسامة عريضة يستقبلنا محمد (16 عاماً) ونحن ندخل غرفته بعدما طلبت الممرضة ارتداء السترة الواقية. طمأننا أنّه بخير ولاسيّما إذا ما قورن وضعه حالياً مع ما كان عليه لحظة دخوله المستشفى، فهو اليوم يحتاج فقط لمتابعة علاج يديه وأذنه اليسرى بعد أن أصابت الحروق كامل جسده بما فيها وجهه.
يتجاوب محمد مع العلاج ويصرّ على العودة إلى الحياة، فهو يأمل أن يشفى لأنّه أصبح السند الأخير لأبويه بعدما قتل أخواه الاثنان علي (18 عاماً) وإبراهيم (14 عاماً) في الحريق، كما أنّ المرض المزمن أقعد والده عن العمل.
كان محمد وشقيقاه يعملون لينفقوا على العائلة، يجمعون رواتبهم ويعطونها لوالديهم كلّ شهر، أما اليوم فلم يبق إلّا هو، وفيما هو موجود في مستشفى السلام يجري والده حسين فحوصات في مستشفى رفيق الحريري الحكومي في بيروت من أجل إجراء عملية في ساقه.
تلمس عند محمد رغبة في مشاركة تجربته مع زائريه، يبادر قبل السؤال ويقول: “لا يمكن وصف النار التي خرجت من الصهريج، اشتعل جسدي رغم أنّي لم أكن ملوّثاً بالبنزين، كنت أنتظر في السيارة، جئت لأخبر شقيقي بطلب الوالدة ضرورة العودة إلى المنزل، نجوت أنا فيما استشهد شقيقاي بعد أن كانا على ظهر الصهريج يحاولان ملء غالون البنزين”. ويضيف: “حاولوا (العائلة) إخفاء خبر وفاة شقيقَيْ لفترة، إلّا أنّه كان لديّ شعور عميق بأنّهما توفيا، فقد رأيت الناس تحترق وتتفحم، والحمد لله على كل شيء”.
يتذكّر محمد أنّه وبفعل عصف الانفجار طار من مكانه، غاب عن الوعي ربّما لثوان، بعدها عاود الوقوف، سار حوالي كيلومتر وقطع البساتين ليصل إلى الأوتستراد حيث تلقّفه أحد المارة ونقله إلى المستشفى.
في الأيام الأربعين الأولى غطّاه الشاش بالكامل فقد أصيب بحروق بالغة في كافة أنحاء جسده بما فيها الوجه. عانى محمد كثيراً، كان يصرخ باستمرار بسبب الألم الجسدي الناجم عن الحروق، والنفسي عندما يستذكر الحادثة ومقتل شقيقيه أمامه. تقول الوالدة ماجدة “لا يتذكّر ما كان يفعل خلال الأيام الـ 15 الأولى”. شهدت حالته الصحّية تحسّناً مستمرّاً، حيث أزيل الشاش عن رأسه ووجهه بالكامل باستثناء الأذن المغطاة إلى أن تتعافى، حيث شفي الوجه ولكن طبعاً مع بقاء آثار للحروق يتطلّع محمد إلى مرحلة الترميم لإزالتها. ولا تزال أطرافه مغطّاة بالضمّادات التي يتمّ تغييرها بصورة مستمرة.
ماجدة والدة وحيدة تعتني بما تبقّى من عائلتها
تأتي والدة محمد، ماجدة، بصورة يومية إلى المستشفى للاطمئنان على “ما تبقّى لديها من أسباب تبقيها على قيد الحياة” كما تقول، تأتي كلّ يوم وهي “الصبورة” على حد وصف محمد، فقد خسرت اثنين من أبنائها فيما الثالث يعاني من حروق عميقة، وزوجها يعالج في بيروت.
يشكّل الوصول إلى المستشفى معاناة إضافية للوالدة، فهي تقوم بأعمال عدّة في وقت واحد، من جهة عليها الحفاظ على عملها في “تسليق” الحشائش وبيعها وفي عفارة الزيتون (لملمة الزيتون الذي يبقى على الأرض بعد القطاف) من أجل تأمين جزء من قوت عائلتها، وأن ترعى ابنتها الصغيرة التي تبقى في المنزل، ناهيك عن زوجها الذي يعاني من السكري ومفاعيله. وفي الوقت نفسه عليها أن ترافق ابنها “الذي بات الوحيد”، في رحلة العلاج. حملت جروحها، وكابرت على ألم فقدان ولديها الآخرين، ولم تفصح لمحمد عن الخبر الجلل لأيام طويلة “لكي لا تتأثر نفسيّته”. وهي تأتي إليه بصورة يومية، وتتكبّد عناء الانتقال من الكويخات عكار إلى البحصاص طرابلس “الذي أصبح غالياً جداً وكلفة الفان باتت 50 ألف ليرة لبنانية، بالإضافة إلى كلفة السرفيس ضمن طرابلس”.
تستذكر الوالدة تلك الليلة، “قبل الانفجار بساعات، كنت جالسة مع أبنائي، عند الحادية عشرة والنصف ليلاً تركوا المنزل، ظننت أنّهم ذهبوا لإحضار طعام العشاء أو علبة دخان، تأخّروا، عند الواحدة حاولت الاتصال بابني علي، وعندما لم يجب اتصلت بحسن وعرفت أنّهم يحاولون الحصول على البنزين من صهريج يقوم الجيش بتوزيع محتواه على الناس، طلبت منه أن يعود مع أخوته فوراً” تقول الوالدة. ذهب محمد لإخبار أخويه برغبة والدتهم بالعودة إلى المنزل، وما هي إلّا لحظات حتى وقع الانفجار.
رحلة البحث في المستشفيات
نزلت الوالدة عند الواحدة والربع من المنزل بحثاً عن أبنائها وكان المشهد الذي “يبكي الحجر” حسب تعبيرها “كانت أجساد الناس مشتعلة، أناس يركضون، ويصرخون طلباً للمساعدة” تقول الوالدة وتضيف: “اتجهت من دون تردد نحو النار، أمسكتني مجموعة من الشبان وأدخلوني إلى إحدى السيارات، وبعدما تنبهت لحجم الكارثة بدأت رحلة البحث عن أبنائي”.
عثرت الوالدة على محمد في مستشفى اليوسف في حلبا في عكار، وكان يعاني من حروق بليغة، “عندما وضعت يدي على رجليه، علق اللحم على راحتي” تقول الوالدة مضيفة: “عندما رأيت أنّ الحروق في أطرافه ارتحت بعض الشيء، سينجو قلت لنفسي، كان عليّ تقوية عزيمته”.
أمّنت الوالدة نقل محمد بسيارة عادية إلى مستشفى السلام في طرابلس لأنّه كان يصرخ من دون أن يحصل على العناية الطبية في عكار، وبعدما اطمأنّت عليه، بدأت تبحث عن أخويه، متنقّلة من مستشفى إلى آخر، تتفحّص الجرحى واحداً واحداً.
“الجميع كان يردّد بأنّ عملية البحث عن أحياء مستمرّة، إلّا أنّ شعوراً في داخلي كان يقول لي إن الشباب راحوا” تقول الوالدة وتضيف: “تأكّد الشعور حين طُلب مني إجراء فحص الحمض النووي DNA، ولداي جثتان محترقتان، واحدة في مستشفى رحال والثانية في االسلام القبيات”.
رفضت الوالدة التعرّف على جثة ولديها، اكتفت بنتيجة فحص الحمض النووي، “لا أريد أن تكون صورتهما الأخيرة إلّا كما أريدها” تردّد.
تأمل الوالدة أن يتعافى محمد سريعاً ويعود إلى سابق عهده، فهو أملها وسندها ومن بقي لها ولشقيقته الصغيرة.
اليوم فكّ محمد الشاش عن رأسه وبدأ يأكل، أحضرت له والدته الفاهيتا التي طلبها، حاله تتحسّن باستمرار، لقد نجا وسيعود قريباً إلى الحياة التي اشتاق إليها.
أحمد المحمد رحلتا علاج مضنيتان
من الطابق الثامن إلى التاسع صعدنا، التقينا أحمد المحمد (17 سنة) الذي يأمل أن يستعيد روتين حياته وأن يعود إلى عمله في “باتيسري العائلة” في الدوسة وإلى النادي الرياضي والمدرسة.
ففي الانفجار، احترقت أطرافه وهو إلى اليوم لا يستطيع السير ويقول إنّه يتوق إلى السير مجدّداً بعد الخروج من مستشفى السلام، وليس هذا فقط بل “عندما أخرج من المستشفى أريد أن أجول الكرة الأرضية”.
تلقّى أحمد العلاج بعد الانفجار في مستشفى الجعيتاوي في بيروت، وبعد تحسّن وضعه، خرج إلى المنزل لمدة يومين، ولكن سرعان ما عانى بعض المضاعفات التي اضطرته لدخول مستشفى السلام في طرابلس.
تبدو على أحمد علامات التعافي الجسدي، فهو لم يصب بحروق بليغة في وجهه، وشعر ذقنه قد نبت وكذلك شعر رأسه. يؤكد أحمد أنّ إصابته كانت أقل من غيره بسبب وجود بركة في منطقة الانفجار، شاءت الأقدار أن يقف بمحاذاتها، وهي تلقفت بعض الأضرار. كانت رحلة العلاج طويلة، انتقل بين مستشفيين، من بيروت إلى طرابلس.
في 15 آب أي يوم الانفجار كان أحمد يحضر “الكيك” كالعادة في الباتيسري، إلى أن تلقى رسالة عبر واتساب تبلغه بأنه تم تسليم البنزين إلى المحطة في التليل، فما كان منه ومن شبان المناطق المحيطة إلّا التوجّه إلى هناك بسبب شحّ المادة في عكار.
عندما وصل محمد وشبان آخرون إلى المحطة وجدوها مغلقة، طلب أحد المتواجدين هناك منهم التوجه إلى مكان قريب يتجمّع فيه عدد كبير من الناس. “وقفت في أحد الزوايا مع مجموعة من رفاقي نراقب الناس إلى أن وقع الإنفجار”، يقول محمد مضيفاً: “كانت الناس تركض وهي مشتعلة، أصبت ولم أفقد الوعي، وساعدني شقيقي بلال (19 عاماً) الذي كان يقف في مكان بعيد نسبياً عن الانفجار”.
نقل الصليب الأحمر أحمد إلى مستشفى السلام في القبيات، قبل نقله إلى الجعيتاوي حيث بقي 25 يوماً، قبل أن يخرج إلى منزله ليومين. ليعود بعدها إلى السلام طرابلس.
تؤكّد أم بلال والدة أحمد أنّه “في تلك الليلة، تناولت طعام العشاء مع ابنها، وطلبت منه أن يرافقها إلى النوم، ولكنه قال إنه سيلعب جولة PubG، قبل أن يغفو”، وعند الساعة الثانية إلّا ربع فجراً، أيقظها والد أحمد ليقول لها “يجب أن ترافقيني إلى المستشفى للاطمئنان على أحمد لأنّه أحرق رجله”. فوجئت الوالدة، لأنّها ظنّت أنّه نائم، وازداد خوفها عندما علمت أنّ انفجاراً قد وقع وأنّ أحمد وشقيقه الكبير بلال كانا هناك لإحضار البنزين. وتشير إلى أنّ بلال أصيب برضوض، فيما أدمت الحروق جسد أحمد.
دخل أحمد رحلة علاج طويلة، بنتيجتها تجدّدت خلايا الوجه، وغابت الندوب عنه. فيما تستمرّ عمليات العلاج لأطرافه. قام الأطباء في مستشفى السلام بعملية زرع للأنسجة، في أطرافه العلوية والسفلية. تشعر الوالدة بالخوف في كلّ مرّة تنزف عملية الزرع، إلّا أنّها تتطلّع لتحسّن حاله “لا تريد إلّا أن يُشفى ابنها القريب إليها”، “فهو “عاد شبه طبيعي، ويبقى أن تتعافى يده اليمنى في منطقة الكوع. وكذلك رجله اليمنى التي تتحسّن ببطء مقارنة باليسرى”.
يقول أحمد وهو ينظر إلى والدته بامتنان: “أريد أن أتذوّق طعام والدتي، أريد أن أكون في منزلي حرّاً”.
أزمة مستلزمات طبية في المستشفى
يطمئن الدكتور غبريال السبع مدير عام مستشفى السلام المتخصّصة بعلاج الحروق، أنّ الحالة الصحية للجريحين المتبقيين في المستشفى في تحسّن كبير، وأنّهما تجاوزا مرحلة الخطر على حياتهم، وتستمر عملية معالجة الحروق التي تحتاج فترة زمنية طويلة من أجل الشفاء التام. لذلك فهم بحاجة إلى الاستمرار في العلاج الجسدي للشفاء من الحروق البليغة، بالإضافة إلى علاج ترميمي وفيزيائي. ويشدّد على أهمية العلاج النفسي الذي يحظى به المرضى، فهم “حصلوا على جلسات علاج نفسي من متخصّصين نفسيين ضمن المستشفى، والبعض منهم متطوّعون من جمعية Restart”.
يشير السبع إلى أن المستشفى استقبل قرابة 40 مصاباً إثر الانفجار، وأنّه تمّت في ذلك اليوم معالجة البعض منهم في قسم الطوارئ، ونقل آخرون إلى مستشفيات متخصّصة، وبقي 22 مصاباً فقط في المستشفى. ويلفت إلى أنّ المستشفى يوفّر 33 سريراً مخصّصاً لجرحى الحروق، وأنّه نقل 9 جرحى من المؤسّسة العسكرية إلى الخارج بقرار منهم من دون تدخّل أو طلب من الكوادر الطبية في المستشفى.
ويؤكّد السبع أنّ الإمكانيات البشرية متوافرة في لبنان، إلّا أنّ المستلزمات الطبية أصبحت مكلفة جداً، ويشير إلى أنّ المستشفى استعانت بمخزونها لمعالجة مصابي الانفجار في المرحلة الأولى، كما قامت بعض الجهات بتقديم هبات، وساهمت الجمعيات غير الحكومية في تجديد ودعم المخزون.
ويلفت السبع إلى أنّ المشكلة لا تتوقّف عند تأمين الدواء، وإنّما تتجاوزها إلى الجانب المخبري ولاسيما ما يرتبط بتحضير الخلايا الجذعية، ومستخرجات البلازما داخل مختبرات المستشفى بغية الاستغناء عن شرائها بالدولار الفريش من السوق السوداء، ويقول: “على سبيل المثال، يبلغ ثمن عبوة 3 CC من مادة إنتغرا integra السائلة 2300 دولار، فيما يمكن تقديمها مجاناً من مختبر المستشفى بواسطة البلازما”.
وعن تعاون الجهات الضامنة، يلفت السبع إلى أنّ المستشفى وفي موضوع مصابي الانفجار تتعامل مع مؤسّسة الجيش ووزارة الصحة التي ما زالت تعتمد التعريفات على أساس سعر الدولار الرسمي، فهي مثلاً تضع سقف 850 ألف ليرة لكلفة العلاج اليومي (حوالي 50 دولاراً)، فيما تقدّر الكلفة الفعلية بـ 500 دولار.