المصدر: النهار
الكاتب: المحامي كارول سابا
الجمعة 25 تموز 2025 17:14:28
"ما نواجهه اليوم ليس أزمة بسيطة، بل هو تحوُّل تاريخي، وتأرجح كبير وتغيير مِفصلي في الحقبة التاريخية... الطوفان يُخضِع الواقع، والمؤسسات تواجه صعوبة للإجابة على التحديات. الفوضى تسود: تداخُل الازمات، فقدان الرؤية، انهيار المعالم والمقاييس". <الوزير دومينيك دو فيلبان.
"سأتناول في مقالة ثانية تتبع، الحاضر اللبناني وتحدياته وأخطاره الوجودية، هذا الحاضر المُتأرجح، الحائِر، غير الثابت، الفاقد للمناعة الوطنية، التقسيميّ لا بل الانفصامي في كثير من الأبعاد الوطنية، وكيفية الخروج من الدوامة التي نحن فيها وحوار الطرشان الذي يميزها، بهندسة جريئة على ضوء ضرورات هذه الثلاثية، ثلاثية انتفاضة الوعي والمقاومة وإعادة الانبعاث. ففي عالم اليوم المأزوم، تضيق كل الممرات، ولن يخلص مِن ضيقها إلا مَن له قدرة على العبور بها برؤية استراتيجية وسلاسة تكتيكية تتطلب هندسات وطنية فيها مبدئية وذكاء في التموضع." <المحامي كارول سابا>
"يَعيش العالم اليوم مرحلة مفصلية"، يكتب دومينيك دو فيلبان، رئيس الوزراء ووزير الخارجية الفرنسي السابق الشهير، في مقدمة كتابه الصادر منذ أيام في باريس تحت عنوان "سلطة أن نقول كلا" (دار نشر فلماريون، حزيران2025). ويتابع دو فيلبان: "ما نُواجهه اليوم ليس أزمة بسيطة، بل هو تحوُّل تاريخي، وتأرجح كبير وتغيير مِفصلي في الحقبة التاريخية... الطوفان يُخضِع الواقع، والمؤسسات تواجه صعوبة للإجابة على التحديات. الفوضى تسود: تداخُل الازمات، فقدان الرؤية، انهيار المعالم والمقاييس".
نحن إذاً أمام مرحلة طوفان يتفجَّر، وفوضى تتمدَّد وتسود، وبراكين تتحرك دولياً وإقليمياً ومحلياً، تَتداخَل صواعقها على كل الساحات. القراءة التوصيفية لدومينيك دو فيلبان ثاقبة في التحليل، تحذيرية من خطورة المرحلة وأشكالها وأبعادها وتداعياتها، وتحفيزية لإرادية العمل الإنقاذي الذي يتطلب هَندسَة غير تقليدية للعبور الآمِن في الممرات الضيقة. فالمُعادلات الخطرة التي تسود عالم اليوم، من سيادة حق القوة على قوة الحق، مروراً بالتشييع لمشروعية نظرية الحروب الاستباقية التي تفتقد لكل قانونية دولية، والتشييع الوقح لمشروعية عمليات الضم الجغرافي القسري لمناطق ذات سيادة، والتشييع لتغيير الجغرافيات الجيوسياسية لحماية مصالح الأمن القومي الوجودي للمجتمعات التي تعتقد أنها مهددة وجودياً، وصولاً إلى منطق فرض السلام بقوة المطرقة، مع ما يترافق كل ذلك من إفراط في استعمال مِطرقة القوة العسكرية ووسائل القوة الناعمة والقوة الضاربة على السواء، والإفراط في التعنيف مِن خارج سياق القانون الدولي وعدم احترام أبسط قواعد القانون الإنساني الدولي الذي يحرم التجويع ومحاصرة المدنيين وتصويبهم وضربهم المتمادي، كل ذلك لا يعني أن من يمتلك اليوم دولياً إقليمياً أو محلياً عناصر التفوَُق العسكري والتكنولوجي، لديه رؤية واضحة لمعالم اليوم التالي مما يفسر المزاجية التغيرية في المواقع والمواقف، حينا والتناقضات حيناً آخر، ولأسس السلام العادل والامن والأمان بين الشعوب.
وهنا تكمن أخطار مرحلة تمدد الفوضى وضرب المقاييس الأخلاقية والقانونية والسير بهذه المعادلات التي تشبه كثيراً سيكولوجية تجارب الانتحار السياسي الجماعي التي شهدناها في التاريخ ولا زلنا. فالتاريخ أثبت أن الاستسلام شيء، والسلام شيء آخر. وأن الأمان بين الشعوب والمكونات شيء والأمن المفروض شيء آخر.
بالأمس، وبمباركة الرئيس شيراك حينها، وقف دوفيلبان في مجلس الأمن في الأمم المتحدة في 14 شباط 2003 وقفة نبوية، وشَهَرَ خطابه الشهير كسيف الحق أمام الباطِل، رافضاً غزو العراق من دون غطاء قانوني دولي، مُحذراً من عواقب هكذا فِعل تَجاوُزِيّ للقانون الدولي. فشَهِدَ العالم بعد ذلك الوقت، انهيارات مُتتالية وتدحرج العالم نحو مُعادلة تتألَّق اليوم سميتها "معادلة حق القوة، على حساب قوة الحق". كما بالأمس، يشهر دو فيلبان اليوم سيف الحق أمام مُعادلات الباطل التي تتجاوز وتضرب كل قواعد القانون الدولي وتُرسي مشروعية لمناهج التوسع الجيوسياسي والتعنيف المصلحي، ولفكرة الحرب الاستباقية من خارج أي سياق قانوني دولي.
أهمية كتاب دو فيلبان تكمن في كونه يدعو اليوم إلى "انتفاضة الوعي" لما هو مشترك بالإنسانية التي تجمعنا. فلا عبور آمناً من دون فهم تناقضات عالم اليوم ومعالمه وأخطاره، ومن دون العمل على انتفاضة وطنية للوعي والتمييز. ففي الكتاب تحفيز لما أسميها ضرورات الإرادية السياسية التي تتجلى بعدم الرضوخ للأمر الواقع مهما كان قاسياً، وبالتمييز والمشي عكس التيار، حتى ولو كان جارفاً، من أجل منع الانهيار وإيقافه ومقاومة تدحرجه إيذانا لتقوية المناعات الوطنية ولإعادة تقويم المقاييس السيادية والمجتمعية الصحيحة.
سأتناول في مقالة ثانية تتبع، الحاضر اللبناني وتحدياته وأخطاره الوجودية، هذا الحاضر المُتأرجح، الحائِر، غير الثابت، الفاقد للمناعة الوطنية، التقسيميّ لا بل الانفصامي في كثير من الأبعاد الوطنية، وكيفية الخروج من الدوامة التي نحن فيها وحوار الطرشان الذي يميزها، بهندسة جريئة على ضوء ضرورات هذه الثلاثية، ثلاثية انتفاضة الوعي والمقاومة وإعادة الانبعاث. ففي عالم اليوم المأزوم، تضيق كل الممرات، ولن يخلص مِن ضيقها إلا مَن له قدرة على العبور بها برؤية استراتيجية وسلاسة تكتيكية تتطلب هندسات وطنية فيها مبدئية وذكاء في التموضع.
لكن، لا يمكن الوصول إلى هذه الهندسة الوطنية من دون قراءة صحيحة للإطار السياقي التحوليّ لعالم اليوم المتحول الذي نحن فيه. لأنه إن كانت بالأمس تحولات العالم تؤثر على وطننا بأشكال متفاوتة غير مباشرة، فهي اليوم تدهمنا بسرعة بأخطار وجودية مباشرة تهدد كيانيتنا الوطنية. فالمرحلة العالمية دقيقة وحساسة جداً وفيها متغيرات كبرى دولية، إقليمية ومحلية ومتسارعة في ضرب القيم والمقاييس والمناهج والمبادئ التي قام عليها العالم القديم الذي يأخذ مكانه عالم متحول ومتوحش فيه آلام من دون آمال. فمررنا بثلاثة مراحل متتالية من الأمس إلى اليوم، بدءاً بمرحلة التحول البطيء، مروراً بمرحلة التسريع المرحلي، وصولاً إلى مرحلة "التسريع في التسريع" على قول دو فيلبان.
مرحلة التحول البطيء، بدأت مع سقوط حائط برلين في 1990 والخروج من عالم القطبين وحروبه الباردة التي بقيت الأمور فيها، رغم بؤر التوتر، في جيوسياسية تنافسية جامدة بين القطبين الأطلسي والسوفياتي وأذرعهما. ثم دخلنا في مرحلة عالم القطب الأوحد والقوة الأكثر من عظمى التي تكلم عنها وزير الخارجية الفرنسية المعروف هوبير فيدرين. فتداخلت عوامل كثيرة، للتسريع النوعي والكمِّي لجيوسياسية آحادية عالمية متحركة من حرب أفغانستان، إلى ضرب العراق في الشرق الأوسط، إلى التضييق ومحاصرة الأطلسي لروسيا في مساحتها الطبيعية الجيوسياسية التي تهدد أمنها القومي. وتنامت العولمة المتوحشة، ورافقتها ثورة ليبرالية راديكالية فرضت قيماً مجتمعية جديدة وفككت كل القيم التقليدية. وانتقل العالم من جيوسياسية "عالم المركز"، حيث الجغرافيات محددة، إلى منظومة "عالم الشبكة"، حيث الجغرافيات المتحركة وفقاً للمصالح والسياسات. فحاولت العولمة كسر جيوسياسية ثنائية المركز والأطراف عند بعض القوى العظمى والإقليمية من الخصوم، واستبدلتها بمنظومة الشبكة حيث لا مركز ولا أطراف، بل تمويه الأخطار والتسلل على جغرافيات الخصوم، لإسقاطهم من الداخل. فتم تهديد مباشر لبعض الدول العظمى في مساحاتها الطبيعية الجيوسياسية التي تحمي مركزها، ومنهم روسيا. وتنامت مناهج القوة الناعمة، أي السيطرة من خلال المال والثقافة والتكنولوجيا والعقوبات، بدل القوة الضاربة بالعسكر. والتسريع التحولي تنامى أيضا مع تنامي مناهج الثورة الرقمية مما عمق التفاوت بين الحرب التقليدية والحروب التكنولوجية السيبرانية وعمَّق التفوق لبعض القوى.
مرحلة التسريع المرحلي تنامت بعد سقوط عالم القطبين، ومن ثم سقوط عالم القطب الأوحد، وصعود عالم متعدد القطب والقوى النيو إمبراطورية، الروسية والصينية والتركية والهندية والإيرانية والإسرائيلية إلخ، وصعود قوى الجنوب الشامل وتكتلها ضد منطق الغرب الشامل، بما عرف بمرحلة الخروج من منظومة الغرب التي تكلم عنها واستفاض السفير الفرنسي والخبير الجيوسياسي ميشال دوكلو. فكانت مرحلة تكوين وصعود تكتل البريكس المتنامي إلى اليوم. وهل ننسى أيضاً الانعكاس القيمي العالمي وبدء مرحلة الثورات المجتمعية اللبرالية؟ وانسحاب أميركا من أفغانستان، والانكفاء الأميركي من الشرق الأوسط، وخطاب أوباما في مصر والأزهر وصعود الإسلام السياسي السني وتلزيم منظومة المد السني "التركي القطري الإخواني" في الشرق الأوسط، ومقابلها تموضع المد الشيعي الإيراني في المنطقة؟ هل ننسى فترة ثورات الربيع العربي وما نتج منها من تداعيات وصعود الراديكاليات الدينية التوسعية والإلغائية؟
أما معالم مرحلة اليوم و"التسريع في التسريع"، فتتمحور حول الصدام المجتمعي المتنامي بين القوى الليبرالية الراديكالية والقوى المحافظة الجديدة التي بدأت حرب الردة المضادة المحافظة الترامبية وغيرها في الدول، بشكل ديموقراطيات محافظة لا ليبرالية وأوتوقراطية الطابع والمنهج. التسريع يمر أيضاً مع عودة جيوسياسية المركز والأطراف، وحماية المساحات الطبيعية للدول، وعودة الحرب التقليدية في أوروبا رغم الردع النووي الذي يتم تحييده، من حرب روسيا في أوكرانيا، وتهديدات أميركا في كندا وغرينلاند، وتركيا النيو عثمانية في الشرق الأوسط وسوريا، وإيران وأذرعها في المنطقة، وحرب إسرائيل في إيران، والتوسعية الإسرائيلية في المنطقة مع صعود اليمين الصهيوني الديني المتطرف وسيطرته على مراكز الأمن والعسكر والتكنولوجيا والقرار، ونهاية الانكفاء الأميركي في الشرق الأوسط، وتنامي الصراع على الممرات البحرية والجغرافية لما هو أبعد من السيطرة على الثروات المائية والبترولية والغازية، أي حروب السيطرة على المعادن الأرضية النادرة، الأساسية في التطور التكنولوجي وتعميق عناصر التفوق بالأخص مع صعود مناهج ثورة الذكاء الاصطناعي والحرب السيبرانية. المحوري في هذه المرحلة أيضاً هو صعود المسيانيات الدينية السياسية في الشرق الأوسط التي لا تعترف بجغرافية الدولة الأمة ولا بجغرافيات سايكس-بيكو. المرحلة العالمية والإقليمية مطبوعة بصعود كل عوامل وعناصر جبه ما اسميه صراع الإمداد، أي المد السني، والمد الشيعي، والمد اليهودي وهي أمداد توسعية الطابع إلغائية المنهج والسياسات. فكان 7 تشرين الأول/ أكتوبر وما تبعه من منطق الحرب الشاملة والمستمرة واستعمال السلاح الديموغرافي فيها إلخ... وكل ما نشهده اليوم على الساحة الشرق أوسطية التي تعتبر في علم الجيوسياسية، جزيرة وقلب العالم.
أما التغيير المفصلي اليوم في معالم السياسة الدولية والإقليمية وثوابتها فيتمحور حول نهاية التعددية التفاوضية بين الدول وضرب مناهج القانون الدولي، وانبثاق نظام عالمي متحول يقوم على منطق حق القوة وليس قوة الحق، ومنطق فرض السلام بالقوة، ومنطق المزاجية الإرادية الاوتوقراطية، ويقوم على ضعف السياسة الأوروبية التي تعلن دعمها لمبادئ القانون الدولي ولكن لا تترجمه في أرض الواقع وهي المحاصَرة بين القطب الأميركي، الذي يهددها بالرسوم الجمركية والسياسات الدفاعية من جهة، والسياسات النيو إمبراطورية الأخرى التوسعية أيضاً، ومعادلة تحييد القوة النووية التي تبين انها لا تمنع الحرب التقليدية. وأهم ما نشهده هو تقاطع وتضارب المصالح بين القوى العظمى والقوى الإقليمية الصاعدة الحليفة، وقدرة الأخيرة على جر القوى العظمى إلى أجنداتها.
"اُدْخُلُوا مِنَ الْبَاب الضَّيِّقِ، لأَنَّهُ وَاسِعٌ الْبَابُ وَرَحْبٌ الطَّرِيقُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْهَلاَكِ، وَكَثِيرُونَ هُمُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ مِنْهُ". يبدو أن كلام السيد المسيح في إنجيل متى لم يَصِل إلى آذان كثيرين وعقولهم في هذا الشرق وفي لبنان. قلة تدرك أهمية تحدي الممر الضيق الذي تُواجهه المجتمعات اليوم على أنواعها. فالأكثرية تتدافع بغوغائية وصَخب في الطريق الواسع الذي يؤدي إلى الهلاك، بدل التركيز على منهجيات العبور في الممر الضيق الذي هو طريق الحياة وباب الخلاص، والتي تتطلب بصيرة في الرؤية، وضوح في الهدف، ثبات في الموقف، شجاعة في الاستراتيجية، استباقية في مجابهة الأخطار، ذكاء في التموضع، تخطيط في الإقدام، وحنكة في التنفيذ.