أخطر من النووي والكيميائي... السلاح البيولوجي إلى الواجهة مع احتدام الحرب الباردة!

قد يكون السلاح النووي الذي يحتل سلّم أولويات المخاوف العالمية، أكثر فتكاً من سلاح البارود التقليدي، لكن الكابوس الفعلي يكمن في سلاح من نوع آخر نتائجه القاتلة تتخطّى تداعيات السلاحين النووي والتقليدي معاً، وقد يرقى إلى مستوى استخدام تعابير "المحرقة" والإبادة الجماعية، وهو السلاح البيولوجي الذي يطل برأسه بين الحين والآخر مع كل حديث عن عودة الحرب الباردة.

عُرف السلاح البيولوجي خلال فترات سابقة، كانت أبرزها الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، حينما تصاعدت المخاوف من تطوير مختبرات مهمتها تعديل الفيروسات والبكتيريا وتسريبها، كسلاح يُستخدم قادر على قتل أعداد كبيرة من البشر وإرباك الحكومات غير القادرة على التعامل مع موجات أوبئة خارجة عن السيطرة.

يشرح الخبير في أسلحة الدمار الشامل والقانون الدولي أكرم كمال سريوي لـ"النهار" كيفية استخدام الأسلحة البيولوجية، فنشرها يتم عبر تعبئتها داخل القنابل، أو عن طريق تلويث المياه أو الطعام أو الهواء أو المعدّات، ويلفت إلى أنّها أقدم أسلحة الدمار الشامل، ويُعطي أمثلة عليها، كـ"الطاعون"، "المطر الأصفر" الذي استخدمه الجيش الأميركي في فيتنام، و"الجمرة الخبيثة".

في السياق، سلّط مقال نشره آشيش جها، عميد كلية الصحة العامة بجامعة "براون"، ومات بوتينغر، الرئيس التنفيذي لشركة الأبحاث الجيوسياسية "غارناوت غلوبال"، وماثيو ماكنيت، رئيس الأمن البيولوجي في "جينكو بيو-وركس" والباحث في مركز "بيلفر" في كلية هارفارد كينيدي، في "واشنطن بوست"، الضوء على خطورة الحرب البيولوجية وتداعياتها وكيفية مواجهتها.

يعتبر الباحثون المذكورون أن "كابوس المحرقة البيولوجية ليس خيالاً"، وينقلون عن تقارير وتحقيقات معلومات عن أبحاث تُجرى في دول بشأن هذه المسألة، وتزعم التقارير "إعادة فتح وتوسيع مجمعات عسكرية ومختبرية كانت تُستخدم أثناء الحرب الباردة، وكتابة بعض الضبّاط العسكريين عن فوائد الحرب البيولوجية الهجومية".

يتخوّف المقال من الزعماء "المهووسين بالموت" لجهة احتمال استغلالهم السلاح البيولوجي كـ"أفضل فرصة"، وبرأي الباحثين، قد "تستسلم" بعض الأنظمة لإغراء قوّة هذا السلاح الفتّاك. وبما أنّ لهذا السلاح نتائج جانبية عكسية، فقد تقوم هذه الأنظمة بتطعيم شعبها سرّاً قبل شن الهجمات البيولوجية لحمايته من الفيروسات.

لا يقتصر إنتاج السلاح البيولوجي على الأنظمة، بل على التنظيمات أيضاً، وتُحذّر "شبكة القيادة الأوروبية" من أنّه مُتاح للمنظمات الأصغر ذات الموارد الأقل، مثل الجماعات المسلّحة، وفي هذا الإطار، يقول سريوي إن تكلفة إنتاجه المنخفضة عامل مؤثر لجهة حيازته من قبل العصابات، وبالتالي فإنّه أخطر من السلاح النووي والكيميائي.

المخاوف تتصاعد من استهداف مجموعات عرقية محدّدة، وإذ يُشير الخبراء كتّاب المقال إلى احتمال تطوير مسبّبات الأمراض القادرة على التأثير بشكل غير متناسب على مجموعات عرقية محدّدة، فإن الشبكة الأوروبية تحذّر من الذكاء الاصطناعي والتطوّر التكنولوجي اللذين ينتجان تهديدات تشكّل خطراً وجودياً على مجموعات ديموغرافية محدّدة.


التطور التكنولوجي عامل سلبي
التطور التكنولوجي يزيد من خطورة هذه المسألة، فالتقدم التقني والذكاء الاصطناعي عوامل تسهّل التلاعب بالجينات وإنتاج الفيروسات المؤذية "أكثر من أي وقت مضى" وفق ما يقول الخبراء، الذين يستشهدون بتفشّي فيروس كورونا "المعدّل اصطناعياً"، ويكشفون عن تلاعب باحثين مدنيين وعسكريين في جميع أنحاء العالم بفيروسات أكثر فتكاً من كوفيد 19.

يصف أحد الجنرالات الحرب البيولوحية بأنها طريقة "أكثر قوّة وأكثر تحضراً" للقتل الجماعي من الأسلحة النووية، انطلاقاً من أنها لا ترتّب مسؤوليات على الأطراف المهاجمة كون التسريب يحصل بسرّية، عكس الضربات بالأسلحة النووية أو التقليدية، كما أن نتائجها قاتلة بنسبة أعلى، ويستشهد مقال الباحثين بوفاة أكثر من 27 مليون شخص بكورونا.

من جهته، يستذكر سريوي "الطاعون" الذي قتل أكثر من 50 مليون شخص في أوروبا في القرن الرابع عشر، ويُشير إلى أن العوامل التي تزيد من خطر الأسلحة البيولوجية، هي سهولة إنتاجه، وقدرته الواسعة على الانتشار خلال وقت قصير، وصعوبة الكشف والتشخيص الذي يحتاج إلى مختبرات ووقت طويل وإمكانية استخدامه في أوقات السلم كما في الحرب. 

ميادين استخدامه
تستعر الحرب الباردة بين معسكري الشرق والغرب وتتنوّع أشكال المواجهة، وبرأي سريوي، وفي ظل تعطّل الحلول عبر المؤسسات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة ومجلس الأمن، فإن الباب مفتوح أمام استخدام كل أنواع الأسلحة وفي مقدمتها السلاح البيولوجي، انطلاقاً من أن أسلحة الدمار الشامل الأخرى، كالنووي والكيميائي، تُسبّب اشتعال حروب مباشرة.

الاستخبارات الحل؟
لا يركن الباحثون والخبراء إلى معادلات الردع لتفادي الحروب البيولوجية، أي إلى مخاطر تطوير كافة الجهات المتصارعة أسلحة بيولوجية، كمعادلات الردع النووية، كون المشهدية أكثر تعقيداً، والقدرة على التملّص من المسؤوليات وتنفيذ الاستهدافات بسرّية تامة دون معرفة المصدر المطوّر للفيروس، تزيد من التحديات المرتبطة بالردع.

سريوي يعترف أن الاتفاقيات الدولية لم تمنع خطر الحرب البيولوجية، وتجارب إنتاج بعض الفيروسات، وآخرها فيروس كورونا، تُثبت هذا الواقع، ويستشهد بكوفيد ليقول إن انتشاره نموذج لما قد يحصل في العالم جرّاء عدم التقيّد باتفاقيات الحظر. وبرأيه، الوسيلة الأنجع هي تفعيل اتفاقيات حظر إنتاج الأسلحة البيولوجية، ومراقبة كافة الأنشطة المرتبطة بهذا الشأن.

برأي خبراء، فإن الحل يكمن في الاستخبارات للولوج إلى إجراءات استباقية، وذلك عبر تتبّع الأبحاث الخطيرة وجمع وتحليل المعلومات ومراقبة عمليات استغلال التكنولوجيات المتطورة للكشف السريع عن أي مُحاولات لتطوير أسلحة بيولوجية، كون الاعتماد على تنبيهات الحكومات من ممارسات مشبوهة بعد ظهور مرض غير عادي نظام "قديم" لا يمنع انتشار الوباء.

ورغم المخاوف والإجراءات الوقائية، إلّا أن الأسلحة البيولوجية لا تبدو أنها تحتل أولوية لدى أجهزة الأمن القومي، مقارنةً بالأسلحة النووية والنوعية، وفي هذا السياق، يقترح الباحثون إيلاء هذه الأجهزة مهمات "المراقبة البيولوجية" وعدم حصر المسألة بـ"الأنشطة الصحية العامة"، لا بل يتجهون إلى ما هو أبعد من ذلك ويوصون بإنشاء "استخبارات بيولوجية".

وإن لم يكن هذا النوع من الاستخبارات موجوداً بشكل مباشر ومعلن، إلّا أن الحكومة والأنظمة تعمل منذ زمن على تتبّع ممارسات بيولوجية وكيميائية مشبوهة، وتمكّن الأميركيون من جمع عيّنات من "هواء وماء ألمانيا النازية" عام 1943 لمراقبة نشاطها النووي، والأمر تكرّر عام 1949 حينما جمعوا أدلّة تؤكّد اختبار الاتحاد السوفياتي أول سلاح ذرّي.

ويكشف مقال الخبراء في صحيفة "واشنطن بوست" تمويل الولايات المتحدة برامج تجريبية، لأخذ عيّنات بيئية وإجراء اختبارات جينية للهواء ومياه الصرف الصحي مأخوذ من مختبرات وسفن وقواعد عسكرية وسفارات ومراكز نقل رئيسية مثل المطارات في العديد من البلدان، لكن الخبراء يشتكون من نقص الاهتمام بهذه المسألة والذي ينتج عنه نقص ميزانيات تمويل هذه الأبحاث.

وبالتوازي مع النشاط الاستخباراتي لكشف الأنشطة البيولوجية المشبوهة، فإن التعلّم على كيفية الاستجابة للأوبئة بسرعة ومهارة، مهم أيضاً، حسب الباحثين الذين يستذكرون من جديد أزمة انتشار فيروس كورونا، ويُشدّدون على أهمية إنتاج كميات كبيرة من الاختبارات السريعة واللقاحات والعلاجات اللازمة للتخفيف من الوفيات، وتطوير سلاسل الإمداد.

في المحصّلة، فإن العالم أمام خطر يتعاظم ويتخطّى مخاطر الحروب النووية والكيميائية، كون تداعياته الدموية تفوق بأشواط تداعيات الأسلحة الأخرى، وكونه أقل كلفة، ما يضع مصير العالم في أيدي أنظمة متصارعة وحتى جماعات وعصابات، ويفتح الباب أمام ضرورة إيجاد حلول جذرية وسريعة وفعّالة.