أزمة مصادر الطاقة تُنعش اقتصادات الدول البتروليّة

يعيش العالم منذ مطلع العام الحالي تخبّطًا اقتصاديًا غير مسبوق، بما ينذر بدخول الأسواق العالميّة قريبًا دوّامة الانكماش القاسي المصحوب بمعدّلات التضخّم المرتفعة. فارتفاع أسعار النفط في مرحلة التعافي من تفشي وباء كورونا، ثم ارتفاع الفوائد الأميركيّة الذي يضغط على جميع عملات الدول المتقدمة والناشئة، ومن بعده الضغط على سلاسل التوريد المصحوب بأزمة مصادر الطاقة، نتيجة غزو أوكرانيا، كلها عوامل تقودنا نحو نتيجتين: الركود والتضخّم العالميين في الوقت نفسه.

وحدها الدول المصدّرة للنفط بدأت باكرًا بجني ثمار أزمة مصادر الطاقة، من خلال الارتفاع القياسي في عوائد تصدير مصادر الطاقة اوّلًا، وعبر زيادة أوراق الضغط السياسي التي تملكها في وجه الدول المستوردة للنفط. مع الإشارة إلى أنّ متوسّط سعر برميل خام برنت بلغ هذه السنة حدود ال104.34 دولار، مقارنة ب66.63 دولار خلال العام الماضي، ونحو 41.96 دولار خلال العام 2020، ما يشير بوضوح إلى نسبة ارتفاع العوائد التي ستستفيد منها الدول المصدّرة للنفط.

السعوديّة: نسبة النمو المتوقّعة 7.4%
تحل المملكة العربيّة السعوديّة في طليعة الدول المنتجة للنفط عربيًّا، وفي المرتبة الثانية على مستوى العالم، ما يجعل اقتصادها إلى حد بعيد مرآة تعكس الظروف التي تعيشها أسواق النفط العالميّة. خلال النصف الأوّل من العام الحالي، ونتيجة ارتفاع أسعار مصادر الطاقة، ارتفعت إيرادات المملكة من بيع النفط الخام إلى 115.5 مليار دولار، أي بزيادة كبيرة بنسبة 74.5% مقارنة بالعام الماضي. ولهذا السبب بالتحديد، ورغم جميع الضغوط التي يتعرّض لها الاقتصاد العالمي، من المتوقّع أن يتجاوز النمو الاقتصادي في السعوديّة هذه السنة حدود 7.4%.

إلا انّ أهم ما في الموضوع هنا، هو تداعيات أزمة مصادر الطاقة على مستوى علاقة المملكة العربيّة السعوديّة بالمجتمع الدولي. فبعد دوّامة العزلة الدوليّة التي عانى منها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان خلال السنوات الماضية، ستسمح الأزمة الراهنة لبن سلمان بامتلاك أوراق ضغط إضافيّة على المستوى الدولي، وخصوصًا لجهة قدرة السعوديّة على التأثير بقرارات مجموعة أوبيك+ ومستويات إنتاج دولها، وهو ما تحسب له الدول المستوردة للنفط –كالصين والولايات المتحدة- ألف حساب، لاتصاله بمآلات أسعار النفط العالميّة.

قطر: فوائض ضخمة في الميزانيّة العامّة
تحل قطر في صدارة قائمة الدول العربيّة المنتجة للغاز، فيما تحتل المرتبة الرابعة عالميًّا على هذا الصعيد، مع اتجاهها إلى تصدّر القائمة بحلول العام 2026، نتيجة الاستثمارات الجديدة التي تقوم بها حاليًّا لتطوير حقولها. ونتيجة ارتفاع أسعار الغاز بعد الأزمة الأخيرة، وبفعل ضغط الطلب الأوروبي لتأمين غاز بديل عن الغاز الروسي، تتوقّع وكالة فيتش اليوم أن تحقق الميزانيّة العامّة القطريّة فوائض تتجاوز 15% من قيمة الناتج المحلّي الإجمالي، أي من حجم الاقتصاد القطري بأسره. مع الإشارة إلى أنّ هذه النسبة من الفائض تُعد نسبة ضخمة جدًّا، قياسّا بالسنوات السابقة، إذ لم تتجاوز نسبة هذا الفائض خلال السنة الماضية مثلا أكثر من 2.4%.

إلا أنّ أهم ما سينتج عن أزمة الطاقة بالنسبة إلى قطر، سيتمثّل في تعزيز موقعها السياسي على المستوى الدولي، وخصوصًا في ظل فجوة نقص الغاز الأوروبيّة، الناشئة عن توقّف إمدادات الغاز الروسي. ومن هذه الزاوية بالتحديد، يمكن فهم مسارعة الاتحاد الأوروبي مؤخّرًا إلى افتتاح مقر وتعيين بعثة له في الدوحة، وسعي ألمانيا إلى توقيع اتفاقيّة شراكة اقتصاديّة طويلة الأمد مع قطر في مجال الطاقة. كما يمكن من هذه الزاوية أيضًا فهم اندفاع توتال لضخ استثمارات جديدة بقيمة 3.5 مليار دولار في قطاع الطاقة في قطر، خصوصًا في ظل تركيز القطريين على إنتاج الغاز المُسال بالتحديد، الذي تراهن عليه أوروبا اليوم كبديل عن الغاز الروسي.

العراق: فوائض لا يمكن الاستفادة منها
يُعد العراق ثاني أكبر بلد منتج للنفط، في منظمة البلدان المصدرة للبترول، حيث يعتمد على تصدير النفط لتمويل 97% من نفقات الميزانيّة العامّة السنويّة للبلاد. ولغاية شهر أيّار الماضي، كانت إيرادات العراق من تصدير النفط قد ارتفعت لغاية 33 مليار دولار، مقارنة بـ 17.25 مليار دولار خلال الفترة نفسها من العام الماضي. وهذا تحديدًا ما ساهم في رفع احتياطات المصرف المركزي العراقي من العملات الأجنبيّة، لتتجاوز في بداية شهر أيلول الحالي حدود الـ 85 مليار دولار.

إلا أنّ العراق لم يتمكّن حتّى اليوم من الاستفادة من كل هذه الفوائض، لتمويل أي نفقات إضافيّة في ميزانيّته العامّة. ويعود ذلك تحديدًا إلى غياب أي موازنة تسمح بهذا النوع من الإنفاق، نتيجة فشل القوى السياسيّة العراقيّة في تشكيل حكومة جديدة من الانتخابات التي شهدتها البلاد في تشرين الأوّل 2021. مع الإشارة إلى أنّ العراق بات بأمس الحاجة اليوم إلى زيادة نفقات الحكومة الاستثماريّة والاجتماعيّة، بعدما ارتفعت نسبة البطالة لتتجاوز حدود الـ 27%، فيما ارتفعت نسبة الفقر إلى نحو 31.7%.

تفاوت في الاستفادة من إيرادات النفط والغاز
لم تتمكن جميع الدول المصدّرة لمصادرالطاقة من الاستفادة من ارتفاع أسعار النفط والغاز بالشكل نفسه. فعلى سبيل المثال، ارتفعت عوائد روسيا من تصدير النفط والغاز بنسبة 43% لغاية شهر آب الماضي، لتتجاوز حدود ال121.7 مليار دولار. إلا أن تبعات العقوبات الغربيّة المفروضة على روسيا، والتخبطات الاقتصاديّة المحليّة التي نتجت عن غزو أوكرانيا، لم تسمح لروسيا بالاستفادة من ارتفاع أسعار النفط والغاز. ولهذا السبب بالتحديد، تتوقّع أرقام الحكومة الروسيّة أن تسجّل البلاد انكماشًا في النشاط الاقتصادي بنسبة 2.9%، في حين أن جميع التحليلات تشير إلى أن أرقام الحكومة الروسيّة مفرطة في التفاؤل، بما يعني إمكانيّة تسجيل نسب انكماش أقسى.

في جميع الحالات، وعلى الضفّة الأخرى، تعاني جميع الدول المستوردة للنفط والغاز من ظاهرة تضخّم الأسعار العالميّة، وخصوصًا أسعار مصادر الطاقة. الدول الصناعيّة الكبرى، كحال الصين ودول الاتحاد الأوروبي سرعان ما ستتلمّس أثر هذه التطورات على معدلات نموها الاقتصادي، فيما ستتلمّس الدول النامية أثرها على مستوى عجوزات ميزان مدفوعاتها وميزانها التجاري، ما سيُترجم بضغط إضافي على قيمة عملاتها المحليّة واستقرار أنظمتها الماليّة.