المصدر: المدن
الكاتب: علي نور الدين
الأربعاء 14 كانون الاول 2022 18:00:28
حتّى مساء يوم أمس الثلاثاء، لم يكن وزراء طاقة دول الاتحاد الأوروبي قد تمكّنوا من الاتفاق على قرار موحّد بشأن سقف أسعار الغاز، ما فرض تأجيل البت بالمسألة لغاية اجتماعهم التالي يوم الاثنين المقبل. هذا القرار، كان من المفترض أن يحوّل الاتحاد الأوروبي إلى "كارتيل مستهلكين" في سوق الغاز الطبيعي، بما يسمح لهم بالتفاوض جماعيًّا لتثبيت حد أقصى لأسعار الغاز، الممكن شراؤه من جميع المنتجين، تمامًا كما فعل الاتحاد نفسه ومجموعة الدول السبع معًا بالنسبة إلى النفط الروسي، حين تم تثبيت حد أقصى لسعر شراء برميل النفط الروسي. لكن وبخلاف النفط، يبدو أن تباينات مصالح الدول الأوروبيّة في سوق الغاز كانت أكبر من مثيلتها في أسواق النفط، ما فرمل خروج الدخان الأبيض من بروكسل.
طرح المفوضيّة الأوروبيّة.. وتحفّظ البنك المركزي الأوروبي
قبل الدخول في انقسام الدول الأوروبيّة حول الملف، من المهم الإشارة إلى أنّ مؤسسات الاتحاد الأوروبي المركزيّة نفسها لم تتفق حتّى اللحظة على خطّة مقاربة موحدة بالنسبة لهذه المسألة. مفوضيّة الاتحاد طرحت خلال اجتماعات يوم أمس مقترحًا يقضي بتثبيت حد أقصى سعر الغاز الممكن شراؤه من قبل أي دولة أوروبيّة عند حدود 275 يورو لكل ميغاواط ساعة. وفي حال تجاوز أسعار السوق هذا الحد لمدّة تتجاوز الأسبوعين، فسيتم تفعيل آليّة فرض الحد الأقصى بشكل تلقائي، ما يلزم جميع الدول الأوروبيّة المشترية للغاز بالإلتزام بهذا السقف، وعدم شراء أي شحنة غاز تتخطاه.
المفوضيّة الأوروبيّة تعتبر أن هذا الطرح يمثّل حل وسط واقعي، بما يسمح بالحفاظ على إمدادات الغاز الحاليّة في السوق، ويحول دون وقف المنتجين صفقات بيع الغاز في الأسواق الأوروبيّة. وفي الوقت نفسه، تعتبر المفوضيّة أن فرض هذا الحد الأقصى يحقق الحد الأدنى من الانسجام داخل السوق الأوروبيّة، لمنع تضرر الأسواق التي لا تملك حكوماتها القدرة على دعم شراء مصادر الطاقة، أو دعم كلفة الكهرباء.
في المقابل، يصر البنك المركزي الأوروبي حتّى اللحظة على التحذير من هذا النوع من الإجراءات، الخارجة عن قواعد العرض والطلب التقليديّة في سوق مصادر الطاقة. فالبنك المركزي يعتبر أنّ وضع سقف لأسعار الغاز بهذا الشكل قد يؤدّي إلى تهديد استقرار النظام المالي، نتيجة التقلّبات السريعة في الأسعار التي يمكن أن تنتج عن قرارات من هذا النوع.
ثلاث تكتلات داخل الاتحاد الأوروبي
بمعزل عن اختلاف تقدير الموقف بين البنك المركزي والمفوضيّة الأوروبيّة، بدا من الواضح في نقاشات الاتحاد أن الدول الأوروبيّة انقسمت على ثلاث تكتّلات، عكس كلّ منها مصالح الدول التي يمثّلها:
- فرنسا وإسبانيا واليونان تبنّت معًا طرح المفوّضية كحل وسط، محاولةً تمريره كما هو، أو على الأقل مواءمته مع هواجس الدول الأخرى لتمريره. مع الإشارة إلى أنّ المسألة المشتركة بين الدول الثلاث هو امتلاكها لحجم مقبول من تدفقات الغاز الطبيعي، من مصادر غير روسيا، وخشيتها من قدرة إلمانيا على دعم إنتاج الطاقة داخل سوقها المحلّي، وأثر ذلك على المنافسة داخل الاتحاد الأوروبي نفسه. ولهذا السبب بالتحديد، تمتلك هذه الدول الثلاث المصلحة الاقتصاديّة في فرض سقف لأسعار الغاز الطبيعي، من دون أن تخشى فعلًا من أثر ذلك على واردها من مصادر الطاقة.
- التكتّل الآخر، يتمثّل في ألمانيا والنمسا وهولندا، التي مازالت تصر حتّى اللحظة على إبداء هواجسها اتجاه فكرة سقف الأعلى من الأساس، متماثلةً بذلك مع هواجس البنك المركزي الأوروبي. مع الإشارة إلى أنّ سائر الدول الأوروبيّة تنظر بعين الريبة حتّى اللحظة إلى هواجس ألمانيا، التي تمكنت من دعم إنتاج الطاقة داخل سوقها المحلّي، بمعزل عن أي آليّات لتثبيت الأسعار مع الشركاء الأوروبيين.
- أخيرًا، يتشكّل التكتّل الأكبر من نحو 11 دولة أوروبيّة، تقودها كل من إيطاليا وبلغاريا بولندا وبلجيكا، حيث تطالب هذه الدول بتخفيض سقف الأسعار إلى ما دون السقف الذي اقترحته المفوضيّة الأوروبيّة، والذي تبنّته في وقت لاحق فرنسا. ورغم حماسة فرنسا لفكرة سقف أسعار الغاز، إلا أنّها ترى في هذه المطالبات عرقلة غير هادفة، وأهدافًا لا تتسم بالواقعيّة. وتخشى فرنسا من خفض سقف الأسعار إلى ما دون الحد المقترح اليوم من قبل المفوضيّة الأوروبيّة، كما يطالب هذا التكتّل، بما يمكن أن يؤدّي إلى امتناع الدول المنتجة للغاز عن إرسال شحناتها إلى السوق الأوروبيّة.
مشاريع أخرى مفرملة
من الناحية العمليّة، لا تقتصر خطط الاتحاد الأوروبي في ملف الغاز على سقف الأسعار، بل تشمل كذلك رزمة متكاملة من الإجراءات من قبيل العمل على بنية تحتيّة مشتركة، مسهّلة لأنشطة نقل الغاز وتسييله أو تغويزه. كما تشمل وضع آليّات للتضامن، بما يسمح بإسعاف الدول التي تعاني من نقص في الاحتياطات، أو ارتفاع مبالغ فيه في الأسعار، أو ثغرات في سلاسل توريد الطاقة لديها. إلى أنّ جميع هذه الخطط، ورغم الاتفاق عليها في اجتماع يوم أمس، ستبقى معلّقة، بانتظار الركن الأخير من الخطّة، المتعلّق بآليّات التسعير المشترك.
هكذا، ستبقى المسائل معلّقة بانتظار يوم الاثنين المقبل، واجتماع وزراء الطاقة الأوروبيين المخصص لاستكمال التفاوض على هذا الملف. وحتّى اللحظة، تبدو فرنسا الطرف الأساسي الفاعل، على خط التفاوض مع جميع اللاعبين الرئيسيين، لتذليل العقبات والوصول إلى أرضيّة مشتركة. أمّا ألمانيا، صاحبة القطب الصناعي الأكبر والأهم داخل الاتحاد الأوروبي، فتستمر بلعب دور محامي الشيطان، الحذر من هذه الخطوة، ولو أن جميع التحليلات تشير إلى اتجاهها نحو السير بهذه الخطّة، في حال تم تقديم الضمانات الكافية، التي تحول دون توريط الاتحاد الأوروبي بأسره في مغامرة غير محسوبة.