أسامة الرحباني في ذكرى رحيل منصور: حافظنا على إرثه

13 عاماً تمر على رحيل عبقري لبنان منصور الرحباني. في سنة الرحيل الثالثة عشرة، يعلن نجله أسامة الرحباني تدشين قناة على «يوتيوب» تحمل اسم الأب وتحتضن أرشيفه. طال العمل على المشروع، فجمعُ الكنوز مرهق. يحرص الأبناء الثلاثة للراحل، مروان وغدي وأسامة، على تقديم أرشيف مصور بمثابة مرجعية ثقافية يمكن العودة إليها بجودة تواكب العصر. يطلقون قناة منصور الرحباني الرسمية عبر «يوتيوب»، حيث بحر الإبداعات من مسرحيات ومقابلات وأعمال شعرية ونثرية، وباقات الموسيقى والشعر.

ينهمك أسامة الرحباني بالوقت لإحساس بأنه قد يضيق أمام تحقيق الأحلام الكبيرة، والأجدى مطاردته والانقضاض عليه. يخبر «الشرق الأوسط» أن الاهتمام بمسألة الأرشفة ضئيل داخل العائلة الرحبانية الواسعة، وبمجرد البدء من مكان هو مقدمة لوضع اليد، قانونياً، على الإرث العريق. ماذا تحتوي القناة المصورة؟ يجيب: «هي المرجعية لتراث منصور الرحباني، مع نسخة مرممة لأعماله القديمة من عام 1986 إلى تاريخ رحيله في عام 2009، نغذيها شيئاً فشيئاً، من كتاباته الشعرية والنثرية وأعماله المسرحية الكاملة، والأغنيات من كلماته وألحانه، مع الحرص على مراعاة أحدث التقنيات المتعلقة بالصوت والصورة. وثمة فقرة (منصور يقرأ)، وفيها قراءاته لشعراء أثروا الذاكرة الثقافية بينهم المتنبي وسعيد عقل والأخطل الصغير. وفي القناة أيضاً مشاهد من الكواليس لم تُعرض بعد عن تحضير مسرحياته، ومقابلات صحافية تشكل خلاصة أفكاره حيال الوطن والإنسان والسياسة».

المستمع إلى أسامة الرحباني مثل السابح في بحر أمواجه تولد أمواجاً، وأفكاره تلهم أفكاراً تحرض على الغوص. عائلة منصور الآن تستريح، بعد الاطمئنان إلى أن الإرث في أمان والإنتاج الغزير في المكان الصحيح. يتابع أن الأرشيف المصور على قناة منصور الرحباني الرسمية في «يوتيوب» يضم أيضاً مسرحيات صُورت على مسارح لبنان ودول عربية ولم تُعرض بالكامل، كـ«آخر أيام سقراط» التي قُدمت في دار الأوبرا بالقاهرة والإمارات عام 1999، و«صيف 840»، النسخة الجديدة، في كازينو لبنان ومهرجانات بيبلوس عام 2009، ومسرحية «المتنبي» ضمن مهرجانات بعلبك ودمشق والأردن والفوروم دو بيروت عام 2002، و«ملوك الطوائف» التي عُرضت بنسختها الجديدة في قطر عام 2010، وفي مهرجانات تنورين عام 2016، إلى مسرحية «حكم الرعيان» التي عرضتها مهرجانات بيت الدين والفوروم دو بيروت وقطر خلال عامي 2004 و2005، ومسرحية «زنوبيا» في مهرجانات بيبلوس والفوروم دو بيروت عام 2007، مع أعمال مشتركة بين الأب وابنه كـ«جبران والنبي»، وكل ما تنبغي إضافته تباعاً، فيُغني الأرشيف ويكمله.

الأهم بالنسبة إلى أسامة الرحباني أن يصبح الأرشيف متاحاً ضمن الأصول القانونية. يتحدث عن «فكر مختلف تماماً عن السائد آنذاك، وُلد مع الأخوين عاصي ومنصور، فأحدث ثورة ثقافية عنوانها الاحتراف بعدما كان الهواء الغنائي وهباته على لبنان من النوع الذي يحلو للمتلقي الاستماع إليه وهو يستريح ويتناول طعامه. أتى الأخوان ليفرضا الإصغاء إلى الشعر والموسيقى».

نسأله عن اللُحمة بين العظيمين وإصرارهما على توقيع اسميهما باسم واحد، الأخوان الرحباني. يسرد نشأتهما معاً في الطبيعة ومعاناتهما الجوع والفقر: «كان والدهما من القبضايات المطلوبين من الحكم العثماني. لم يقرأ سوى كتاب عنترة وكان محباً للبزق. تعلم الأخوان من جدتهما ثقافة الفولكلور الشعبي والتشبع بالأفكار حول الطبيعة والأرض. لم تكن لعائلتهما علاقة عميقة بالفن، إلا أنهما أبحرا منذ المراهقة في مراكبه. في عام 1944، وبينما كانا يُكرمان على نطاق ضيق في بلدتهما أنطلياس عشية عيد الميلاد، توفي والدهما في الصباح التالي. عمل عاصي شرطي بلدية ومنصور شرطياً عدلياً بعدما زُورت هويته للالتحاق بالانتداب الفرنسي. بعدها تسجلا في الإذاعة وانطلقا».

محقٌ أسامة الرحباني في حديثه عن أزمة تغييب الأنا في عالم الفن، فيقول: «لم يكن سهلاً زعزعة العلاقة بين الكبيرين. ظلا اسماً واحداً، لا فارق بين مَن يكتب ومَن يلحن. إلى أن أصيب عاصي الرحباني بشلل نصفي وانصرف إلى الإخراج، فوقع اسمه منفصلاً على أعماله، تماماً كمنصور في نتاجه النثري والشعري. بعد رحيل عاصي، أكمل منصور المسيرة».

يرفض أن يكون الأخوان قد اخترعا «فكرة نموذجية» عن لبنان، واليوم تتبخر الأحلام. الأكيد عند أسامة الرحباني، أن الفنان الذي يُبدع لا تُطلب منه أدوار توثيقية. فهما حين كتبا تاريخ لبنان بالموسيقى والأشعار، غرفا في محيط عميق يدعى العبقرية. ويتابع أنهما على العكس تماماً، بينا الواقع على حقيقته، وأسقطا الأقنعة حيال الحكم وأزلامه الفاسدين، والظلم الاجتماعي وتسلط بعض البشر. يعدد المسرحيات التي تختزل نظرة الرحابنة لواقع ليس وردياً تمرح فيها الخيالات السعيدة: «فخر الدين»، «جبال الصوان»، «لولو» وغيرها، ويتساءل: «هل نمنع عاصي ومنصور أو سعيد عقل من حب الوطن كما يشعرون به؟ الأخوان حملا قضية الشعوب في فنهما وصلة الإنسان بالأرض».

يضحك وهو يذكر حين راوغ في قراءة كتاب طلب منه والده إنهاءه، فدخل بعد أيام إلى غرفته ليجد ورقة كُتب عليها: «قرأتُ الكتاب من الساعة السادسة والربع حتى الساعة السابعة والنصف. فماذا تنتظر؟». خجِل، وأنهاه. يعترف أنه ليس سهلاً على المرء أن يولد ابناً لعبقري: «نشأتُ على مستوى رفيع من النقاشات داخل المنزل. لم نكترث للثرثرات عن الناس ومعهم، فكانت الأحاديث فلسفية وتاريخية وفي الأدب والشعر والموسيقى». تعلم منه القراءة بنهم، الجدية في العمل، والخصلة النادرة ضمن آل الرحباني: «ضبط الأعصاب». من الإرث، ينطلق أسامة الرحباني نحو كينونته الخاصة، فيضيف إلى ما تشبع به، أفكاره وجرأته الفنية. وتعلم أيضاً معنى الأرض، ففيها دُفن أبواه، ومن أجلها كتبت عائلته الشعر وتغنت بالطبيعة. اليوم، أكثر من أي وقت، الارتقاء بالفن رسالته النبيلة.