المصدر: نداء الوطن
الكاتب: صالح المشنوق
الثلاثاء 14 تشرين الأول 2025 07:28:59
لا يتميّز لبنان فقط بقرب بحره من جبله، وبأنه يمكن للمواطن أو السائح (عندما يعود إلينا) أن يتزلّج ويسبح في اليوم نفسه. بل إنّه كسر مجموعة هائلة من الأرقام القياسيّة، اعترف بها كتاب غينس للأرقام القياسيّة العالمية (Guinness book of world records). نذكر هنا أبرز هذه الإنجازات: في العام 2010، قام الشيف رمزي شويري بتحضير أكبر صحن حمّص، بلغ قطره سبعة أمتار. أما في العام 2011، فقد حققنا إنجاز أطول ساندويش دجاج، في منطقة الحازمية. وزن الساندويش بلغ 577 كيلوغرامًا، وكان مصنوعًا من قطعة واحدة متواصلة من الخبز. بطبيعة الحال، في العام 2017، أضفنا إلى اللائحة بجهد العاملين في مدرسة أمجد في الشويفات أطول منقوشة، وبلغ طولها 32 مترًا (لا أدري من أصلًا ينافسنا على أطول أو أقصر منقوشة) واللائحة تطول. لكن كل هذه الإنجازات التي وجدت طريقها إلى كتاب غينس تبدو متواضعة أمام إنجازين سطّرهما "حزب الله" في الأشهر الأخيرة، ولا شك أن المحرّرين في غينس ينتظرون بفارغ الصبر إدخالهما في العدد المقبل من الكتاب.
الأول كان جنازة السيّد نصرالله، وقد اتحفنا نعيم قاسم بمعلومة مهمّة مفادها أن الجنازة كانت الأكبر في تاريخ لبنان، بل - إذا احتسبنا العدد نسبة إلى عدد السكان - "الأكبر في تاريخ العالم". الملفت بالموضوع أن الشيخ نعيم تجاهل جنازة الإمام الخميني في العام 1989، التي كانت حتى بالتقديرات المحافظة أكبر (بشكل عام ونسبيًا) من جنازة نصرالله. إلا إذا افترض قاسم، كما قيل في الإعلام، إن مليون شخص حضر جنازة نصرالله (لماذا ليس تسعمئة ألف أو مليون ومئة ألف؟ أسهل للبروباغاندا)، وهي خرافة لا تقلّ فداحة عن وعد "الحزب" بالصلاة في القدس. إلى هذا الحد الاستعراض "مقبول"، ومفهوم سياسيًا. أما الاستعراض المضحك - المبكي، فكان إصرار "الحزب" على توصيف تجمّع كشافة المهدي في المدينة الرياضيّة بأنه "أكبر تجمّع كشفي في العالم"، وكأن أحدًا في هذا العالم معني بمبارزة حول حجم التجمّعات الكشفية.
وقد انبرى معلّقو الحزب ومؤثروه على الاستعراض اللفظي المرافق للمناسبة، مؤكدين أهميّة العدد ما يثير السخرية ليس فقط لأن مشهد الأطفال لا يذكّر إلا بـ "أشبال هيتلر" الفاشيين و"الرواد الشباب" الشيوعيين اللينينيين (الكل يعلم مصير التنظيمين وأفكارهم)، بل لأن "حزب الله" مهووس بفكرة رفض العددية وحكم الأكثرية، نظرًا إلى أن ثلثي اللبنانيين على الأقل رافضون لسلاحه (لذلك يصرّ على ما يسمى "حكومات الوحدة الوطنية" و"الميثاقية"). إلا أن "الحزب" بحاجة إلى تلك الاستعراضات لافتعال حضور سياسي - شعبي يعوّض الانهيار المعنوي الناتج عن تطوّر الأحداث: قبل سنتين تمامًا من "أكبر تجمّع كشفي في العالم"، قام "حزب الله" باستعراض عسكري في جنوب لبنان، بأسلحة شبيهة بأفلام الخيال العلمي، تحت شعار "سنعبر" (إلى إسرائيل نفسها التي عبرت إلى 5 نقاط في جنوب لبنان). بدل الجليل، عبر "حزب الله" إلى المدينة الرياضية، وبدل اللباس العسكري، لجأ إلى اللباس الكشفي (كان من الأفضل للحزب تأليف مجموعة اسمها "صبية الخميني"، نظرًا إلى أن مؤسس الكشاف في بريطانيا في بداية القرن العشرين روبير بادن - باول كان ندم على فكرته لو سمع شعارات الصبية في المدينة الرياضية).
الملفت في كل هذا المشهد ليس سخافة استعراضات "الحزب"، ولا عقد النقص التي يعبّر عنها من يريد تهنئة "الحزب" على انتقاله من النشاطات العسكرية إلى النشاطات المدنية (الحزب مستمر في نشاطاته العسكرية بالخفاء). الملفت هو المقارنة التالية: فيما يستعرض "الحزب" حجم حضوره الشعبي، مرددًا الشعارات الخمينية، رافضًا تسليم سلاحه، ومبقيًا لبنان في دوامة الحرب والاحتلال والتعديات، نرى أمامنا شرق أوسط جديدًا يتشكّل على وقع استسلام "حماس" وانتهاء الحرب في غزة (بعد سقوط الأسد في سوريا). هذا الشرق الأوسط عنوانه مقسوم إلى شقين مترابطين. انتهاء المشروع الإيراني الأيديولوجي العسكري العابر للأوطان بمعناه الفعلي والعملي (الرواسب ما زالت تعبث في أكثر من مكان)، وانتصار خيار السلام الاستراتيجي العربي القائم على رفض الأيديولوجيات والحروب الدائمة وعلى محوريّة النمو الاقتصادي التكاملي بين كل دول المنطقة. وقد رأينا تطوّر الأحداث في سوريا، من الخيارات الحاسمة التي اعتمدها رئيسها أحمد الشرع، إلى حجم الاستثمارات العربية التي تتدفق على الدولة المهدّمة بحكم عقود من حكم البعث الأسدي. ونرى ذلك اليوم أيضًا في مؤتمر السلام في شرم الشيخ، بحضور الرئيس ترامب، الذي دخل تاريخ "صناع السلام" من بابه العريض بفرضه إنهاء الحرب في غزة. كل هذه الأحداث عنوانها السلام، والاستقرار، والازدهار في الدول الوطنية، أي الثلاثي الذهبي المناقض تمامًا للمشروع الاستراتيجي الذي قادته إيران تحت عنوان "وحدة الساحات".
أين لبنان من كل هذا المشهد، وبالتحديد أين الدولة اللبنانيّة من هذا الشرق الأوسط؟ تبدو الدولة اللبنانية، بالمعنى العام للكلمة (برغم جهود رئيس الحكومة الحثيثة) خارج المشهد، بل خارج التاريخ. الأفكار القديمة هي هي. التعابير البالية هي هي. المعادلات السياسية التي حكمت أذهان المسؤولين طوال ثلاثة عقود من الزمن ما زالت تتحكّم بالمشهدية: إدانة الضربات الإسرائيلية، التخوّف من الحرب الأهلية، الحرص على وحدة الجيش، مراعاة مشاعر "البيئة"، تقارير سريّة عن نزع سلاح، ورفض السلام "الأحادي" (وكأن الاتفاقات الإبراهيمية لم تحصل). Paroles et paroles et paroles. رئيس الجمهورية يشير (وحسنًا فعل) إلى ضرورة أن لا يكون لبنان خارج المشهد الإقليمي، ولكنه يربط دخوله بوقف الضربات الإسرائيلية. إذا توقفت إسرائيل يدخل؟ كيف؟ إلى أين؟ قبل تسليم الأسرى؟ ماذا عن النقاط الخمس؟ لا أحد يعلم. لا أحد يعلم شيئًا. لا خطة، ولا رؤية، ولا جرأة على اتخاذ القرار. كأننا عدنا ذهنيًا (وخطابيًا) إلى العام 2016. ليس عام انتخاب ميشال عون، بل عام دخولنا إلى كتاب غينس بسبب صناعتنا لأكبر علبة cornflakes (بوزن 2.7 طن!)، علبة لا تكفي لاحتواء كل آمالنا المعلّقة حتى إشعار آخر أو حرب أخرى.