إختراقات "ما بين الحربين".. كيف أعادت إسرائيل رسم خريطة التجسس على حزب الله؟

كشفت مصادر أمنية لبنانية، أن التحقيقات الجارية مع شبكة تجسس يقودها أوكراني من أصل سوري، والتي أوقف أفراد منها خلال الأسابيع الماضية، تكشف مستوى غير مسبوق من الجرأة في عمليات التجسس الإسرائيلية داخل لبنان، وصولًا إلى محاولات اختراق مرافق حساسة مثل مطار بيروت الدولي.

وذكرت المصادر في حديث لـ"إرم نيوز" بأن أحد العملاء تلقى أمرًا من مشغّله الإسرائيلي بركن سيارة في مرآب تابع لصالة كبار الشخصيات (VIP) في المطار، مع وعد بتزويده ببطاقة تخوله دخول هذه المنطقة شديدة الحساسية.

وبحسب مصدر أمني لبناني، فإن الواقعة تعكس أحد احتمالين؛ إما قدرة إسرائيل على تحصيل مثل هذه البطاقات عبر نفوذ مباشر داخل المطار، أو اعتمادها على تسهيلات غير مباشرة تقدمها جهات غربية ناشطة في المطار.

وتأتي هذه المؤشرات في لحظة حرجة، عقب الحرب الأخيرة بين إسرائيل وحزب الله، والتي شهدت واحدة من أعمق عمليات الاختراق في تاريخ الحزب، أبرزها "عملية البيجر" التي تعد انعطافًا كبيرًا في مسار "حرب الظل" بين الطرفين. كما أن الإعلان عنها يسبق تحضيرات واسعة لحرب أخرى مرتقبة في أي لحظة.  

"البيجر".. عملية مفصلية 

تعدّ عملية تفجير أجهزة النداء (البيجر) وأجهزة اللاسلكي التي وزعت على عناصر حزب الله في سبتمبر 2024، واحدة من أخطر الضربات الاستخباراتية في تاريخ المواجهة مع إسرائيل. وقد كشفت تقارير غربية أن التفجيرات كانت نتيجة اختراق طويل الأمد لسلسلة التوريد العالمية، ما سمح بزرع متفجرات صغيرة داخل بطاريات الأجهزة المستوردة عبر شركات واجهة، قبل أن تُفعّل في وقت واحد.

وتقول مصادر أمنية لبنانية لـ"إرم نيوز"، إن التحقيقات الداخلية التي أجراها الحزب عقب العملية أظهرت أن إسرائيل كانت تمتلك "وعيًا هيكليًا" دقيقًا حول انتشار أجهزة الاتصال، وأماكن وجود القادة الميدانيين، وتوقيتات اجتماعاتهم، ومسارات تنقّلهم. ويُفسر ذلك وفق المصدر، بأنه ناتج عن دمج "معلومات بشرية" حصلت عليها شبكات العملاء، مع "بيانات تقنية" مصدرها طائرات مسيرة وأنظمة مراقبة متقدمة.

وكثفت الأجهزة الأمنية اللبنانية تفكيك شبكات التجسس، حيث أعلنت خلال الأشهر الماضية توقيف أكثر من 30 شخصًا في مناطق متعددة، بينهم موظفون مدنيون، وعمال مرافئ، وعسكريون متقاعدون، ومقيمون أجانب.

وتكشف مصادر "إرم نيوز" أن إحدى هذه الشبكات كانت مكلفة بجمع معلومات عن تحركات قادة من "وحدة الرضوان"، وتوثيق الطرق البديلة التي يستخدمها الحزب لنقل الأسلحة بين الضاحية والجنوب والبقاع. ووفق المعلومات، ساهمت البيانات التي قدمتها تلك الشبكات في زيادة دقة بعض الضربات الإسرائيلية خلال الحرب وبعدها.

ذكاء اصطناعي متقدم

تشير تقديرات مراكز بحث غربية إلى أن إسرائيل طورت خلال السنوات الأخيرة نموذجًا استخباراتيًا متقدمًا يعتمد على "الدمج الكامل" بين الذكاء الاصطناعي والمصادر البشرية والمراقبة الجوية والفضائية.

ووفق تقارير دولية، استخدمت إسرائيل خلال حرب غزة منظومات مثل "Lavender" و "The Gospel"، قبل أن يُعاد تكييفها لتحديد أهداف ودراسة أنماط حركة كوادر حزب الله في الجبهة الشمالية.

ويقول الخبير والباحث السوري محمد صالح الفتيح، إن هذه الأنظمة لا تكتفي بتحليل الصور الجوية، بل تبني "نماذج سلوكية" دقيقة لمسارات المجموعات والقادة، اعتمادًا على تفاصيل مثل نوع السيارة، وعدد المرافقين، وتكرار الظهور، والدقائق التي يقضيها الهدف في مكان معين، والتحركات الليلية، إضافة إلى قياس ترددات الأجهزة الإلكترونية الموجودة في محيطه.  

وأضاف في تصريحات لـ "إرم نيوز" أن هذا الدمج سمح لإسرائيل بتكوين قاعدة بيانات واسعة بعد الحرب الأخيرة، تشمل خرائط انتشار مخازن السلاح الصغيرة، ومسارات شاحنات الإمداد اللوجستي، وأنماط الحركة اليومية في القرى الجنوبية قبل وبعد وقف إطلاق النار.

ويرجح الفتيح أن "إسرائيل، في أي مواجهة مقبلة، ستعتمد على هذه الأنظمة لزيادة دقة الضربات التي تستهدف قيادات ومراكز حساسة، ما يعني أن حرب المعلومات ستتقدم الخطوط التقليدية في أي صدام جديد". 

حزب الله: تقليل الأضرار

تؤكد مصادر لبنانية خاصة لـ"إرم نيوز" أن حزب الله أعاد هيكلة جزء من منظومته الأمنية بعد "عملية البيجر"، عبر سلسلة إجراءات هدفت إلى تقليل الثغرات وإعادة ضبط قنوات الاتصال والتنقل. وتشمل الخطوات التي بدأ تنفيذها إعادة هندسة قنوات الاتصال، وتقليل الاعتماد على الإنترنت، وتعزيز الشبكات الداخلية المشفرة، وإلغاء بعض الوسائط التي كانت شائعة قبل الحرب.

وأجرى الحزب، وفقًا للمصادر، تدقيقًا أمنيًا شاملًا، تضمن تنفيذ عملية "غربلة" واسعة للتأكد من خلفيات العاملين في الوحدات اللوجستية والحساسة، بما فيها المستودعات ومسارات نقل الأسلحة.

كما قام الحزب بتقليل ظهور قادته، والاعتماد على مسارات تنقل غير ثابتة، وتغيير وسائط النقل، ومنع التكرار في الأماكن والمواعيد لتقليل قابلية التتبع.

في هذا السياق، تقول المصادر إن حزب الله، عمد إلى فصل البنى المدنية عن العسكرية، و "بعد الدعوة السابقة لفصل كاميرات المنازل عن الإنترنت، اتجه الحزب إلى إلغاء اعتماد واسع على المصادر المدنية التي يمكن أن تتحول إلى منصات مراقبة".

كما أعاد الحزب توزيع الوحدات الصغيرة، وذلك عبر تحريك مجموعات الرصد والاستطلاع باستمرار لمنع رصد الأنماط اليومية عبر الطائرات المسيرة.

لكن، رغم كل هذه الإجراءات الاحتياطية، "تبقى سلسلة التوريد الدولية نقطة الضعف الأكبر"، في ظل عدم قدرة الحزب على التحكم الكامل بمصادر الأجهزة والمعدات، ما يفتح الباب لاحتمالات اختراق مشابه لما حصل في البيجر، وفقًا للباحث الفتيح.