المصدر: الراي الكويتية
الأحد 10 نيسان 2022 07:33:30
لم يتبق للبنانيين الذين طارت رساميلهم في المصارف إلا رأس المال البشري الذي طالما شكل ثروةَ «بلاد الأرز» الحقيقية.
وفي حين يواجه الشعب اللبناني أعتى الأزمات التي تُنْذِر بتقويض أسس بقائه ومحو كل أمل من نفوس أبنائه وتكريسه بين «بؤساء الأرض»، تظهر من بينه نماذج إنسانية وفكرية ساطعة تتحدى الظروف وتلمع خارج وطنها لتكون قطرة الضوء في آخر النفق الحالك.
إلياس عايدي شاب لبناني شكل الحدَث في الأيام الأخيرة كونه أول شاب عربي ينال جائزة الناسا السنوية «زمالة هابل» Nasa Hubble Fellowship وهي عبارة عن تمويلٍ لمشروعِ أبحاثٍ يُقدم الى نخبة من الفيزيائيين الشباب من حول العالم ليقوموا بأبحاثهم تحت جناح الوكالة.
قصة نجاحه يرويها عايدي لـ «الراي» بحُلوها ومُرّها.
الياس ابن مدينة الميناء في طرابلس الشمالية، درس في مدارسها وتَخَصَّصَ في الفيزياء في الجامعة اللبنانية التي كانت لا تزال تحافظ على عزّها وتعكس وجه لبنان المضيء. وبعد تخرُّجه العام 2011 تابع دراسة الماستر في الفيزياء الفلكية في برنامج مشترك بين جامعتي القديس يوسف وسيدة اللويزة وبعدها أكمل الدكتوراه في جامعة كايب تاون في جنوب أفريقيا في 2018 وحالياً هو دكتور وباحث في الفيزياء الفلكي في جامعة ميشيغان الأميركية.
المثابرة سر النجاح
ويروي لـ «الراي» أنه منذ صغره كان لديه شغف المعرفة في ما يتعلّق بالمواضيع الفيزيائية المتنوعة ولا سيما الفيزياء الفلكية. وطفلاً كان ينظر الى السماء ويُدهش بنجومها فتكوّن لديه شغف لفهم خصائص النجوم وما يحدث فيها.
هذا الشغف تحوّل مع الوقت إلى مثابرة، والمثابِر كما يقول عايدي، حين تُفتح أمامه السبل ويتمكن من اغتنامها يصبح قادراً على تحقيق كل أحلام طفولته. لكن رجل العلم لا ينكر دور الحظ إذ يعترف: «كنتُ موجوداً في الوقت المُناسِب والمكان المُناسِب لالتقاط الفرصة التي أتيحت لي للتقدم وتحقيق بعض أحلام طفولتي. لكن بلا مثابرة واجتهاد تضيع الفرص ولا يمكن ترجمتها الى نجاحات. يظنّ البعض ان الذكاء هو الذي يوصل الإنسان الى النجاح، لكن بالنسبة لي، الناس جميعهم يملكون مؤهلات فكرية متساوية إنما الاجتهاد والمثابرة هما ما يختلف بين فرد و آخَر».
لا يخفي الشاب الناجح ما واجهه من عثرات في طريقه كطالبٍ لبناني. فهو أتمّ دراسته الجامعية في الجامعة اللبنانية في مدينة طرابلس في أقسى الظروف حيث كانت عاصمة الشمال حينها تشهد مواجهاتٍ (على محور باب التبانة – جبل محسن) مستمرّة وكان مبنى الجامعة قريباً من «خطوط التماس» فكانت فترة الدراسة صعبة وتحمل الكثير من الذكريات المؤلمة، وكان عايدي ورفاقه مضطرين أحياناً للفرار من مبنى الجامعة هرباً من المعارك والنار.
حتى أثناء دراسته للماستر في جامعة خاصة، كانت ظروفه وظروف عائلته المادية الصعبة عثرةً أمام قدرته على تأمين قسط الجامعة ما اضطره للعمل كمدرّس بدوام كامل في مدرسة في طرابلس ليتوجّه بعد الظهر الى منطقة بعيدة للالتحاق بجامعته. وبغياب وسائل النقل العمومية في لبنان كان تنقُّله صعباً ومتعباً ولم يكن قادراً على اقتناء سيارة خاصة.
ثلاث سنوات أمضاها على هذا النحو المرهِق، بين عمل يفوق 40 ساعة اسبوعياً وتخصُّص صعب يحتاج إلى جهد ذهني، لكنه لم يستسلم تحت وطأة الضغوط والصعوبات وأصرّ على الوصول الى هدفه، وتَعَلَّمَ الصبرَ والمثابرة والتحلي بحس المسؤولية وبات معتاداً على تحمل الجهد النفسي والفكري والجسدي، ما ساعده لاحقاً على تخطي ضغوط أكبر أثناء أبحاثه: «نحن كلبنانيين ونتيجة كل ما عشناه، باتت لدينا قدرة تحمُّل غريبة ليست موجودة عند الآخَرين، وقد لا يكون هذا أمراً إيجابياً لكنه مفيد في أوقات الشدة».
لم يواجه الشاب الآتي من دولة عربية أي عراقيل وَضعت العصي في دواليبه بل وَجَدَ دعماَ تاماً من جامعته وعائلته وأصدقائه. ويرى أن الشباب اللبناني والعربي شباب مثابر نشيط لكنه للأسف يمر بأوقات صعبة «وفي لبنان بشكل خاص الشباب مصابون بالإحباط وقد فقدوا الأمل. ورغم صعوبة الأوضاع التي تفوق أي كلام، أدعوهم الى عدم التخلي عن أحلامهم ومستقبلهم. وحتى لو كانت هناك فسحة أمل ضئيلة جداً لا بد من التمسك بها».
الانفجارات النجمية
أبحاث عايدي تسعى للإجابة على معضلات في الفيزياء المتخصصة بالانفجارات النجمية. ومشروع البحث الذي نال عنه جائزة الناسا يتعلق بدراسته للانفجارات النجمية وكيفية انبعاث الضوء في بعض الانفجارات وفهمْنا لهذا الأمر من خلال الفيزياء الذرية والنووية التي تحدث خلالها. ولفهمها اقترح أن يتم جمع معطيات الأرصاد بمختلف الموجات المرئية وتحت الحمراء والراديو وما فوق البنفسجية والإكس رايز والغاما رايز من عدة أقمار صناعية ومراصد أرضية وجمعها سوياً لفهم كيف تحدث هذه الانفجارات، ومن ثم محاولة القيام بمحاكاة رقمية عبر الحواسيب لفهم الفيزياء التي تحدث خلال الانفجارات بشكل أوضح.
ويقول: «الفيزياء الفلكية عموماً دورها مهم جداً لفهم الكون الذي نعيش فيه ولفهم الفيزياء التي لا تكون دائماً موجودة على الأرض، فما يحدث مثلاً أثناء الانفجارات النجمية لا يمكن محاكاته على الأرض لأنه يولد كمية طاقة وحرارة هائلة. ولذا يُعتبر الكون مختبراً لنا ندرس فيه فيزياء جديدة يمكن أن تؤدي في المستقبل الى إيجاد تطبيقات لها في حياتنا العادية على الأرض. وسبق أن استفدنا من هذا النوع من الفيزياء مثلاً حين تمت دراسة التفاعلات النووية التي تحدث داخل الشمس والنجوم وبدأت الدراسات على الأرض لا سيما في الصين لمحاكاة هذا النوع من التفاعلات لإيجاد مفاعل نووي يستخدم مثيلاً لها ويكون قادراً على توليد طاقة تكفي الكرة الأرضية بأكملها. وثمة الكثير من التطبيقات التي نستخدمها في حياتنا اليومية متأتية من خلال فهمنا للكون وللفضاء الخارجي».
ونتيجة أبحاثه هذه حصل وزميل عربي آخر هو السوداني سلطان حسن على جائزة NHF (زمالة «هابل») والصدفة هي التي جعلت هذين الشابين، اللذين التقيا معاً أثناء دراسة الدكتوراه في جنوب أفريقيا ومن ثم افترقت طريقهما وتَوَجَّه كل منهما الى ولاية مختلفة، يتقدمان بمشاريع أبحاث لا تربطها أي علاقة لينالا معاً جائزة لتمويل أبحاثهما.
ورغم عدم عملهما معاً إلا أن الأبحاث العلمية الفيزيائية يقول عايدي «هي عمل جَماعي والفريق الذي يعمل معه مؤلف من عدد كبير من المختصين في جامعات مختلفة، فوحده هذا العمل الجماعي المتعدد البُعد قادر على الوصول الى نتائج قيّمة وإحداث خروق وتحقيق اكتشافات مهمة، فيما العمل الفردي لا يصل بعيداً. والمشاركة دائماً تحفّز الإبداع».
التحليق عالياً في آفاق النجاح
نسأل إلياس عايدي إن كان يتخوف من استغلال أبحاثه لأغراض غير سلمية فيجيب: «الإنسان غالباً ما يسعى لإيجاد طريقة لاستعمال الاكتشافات العلمية لأغراض سيئة مثل التسلح وغيره. لكن ما أقوم به من أبحاث ليس له في الوقت الحاضر تطبيقات فعلية على الأرض. وشخصياً أنا ضد كل تسلح وجيوش وحروب، ومن الغباء تقسيم الأرض الى دول تضع غالبية طاقاتها في التسلح والحروب بدل أن تكون كلها شعباً واحداً. ونحن نملك الموارد الكافية لجعل العالم أجمع يعيش بسلام وبحبوحة، لكن الطمع الإنساني هو سبب كل المشاكل. قد تكون لهذه الأبحاث الفلكية تطبيقات سيئة في المستقبل، لكن للأسف هذا أمر لسنا قادرين اليوم على التحكم به. ويبقى هدفي ان أقوم بأبحاث فريدة من نوعها تغيّر حياة البشر نحو الأفضل في المستقبل».
ونسأل أيضاً ما موقع العالم العربي اليوم في العلوم، فيؤكد أن العالم العربي كان سباقاً في العلوم ولا سيما علم الفلك وذلك منذ 1500 عام «ولا تزال غالبية أسماء النجوم تحمل أسماء عربية يستعملها الباحثون بشكل يومي. ولكن للأسف العالم العربي تراجع كثيراً في هذا المجال ونأمل أن يعود في المستقبل الى عزه العلمي السابق».
بعد النجاح، لم تتغير كثيراً شخصية هذا الشاب اللبناني المكافح والذي عايش ظروف بلاده ومدينته الصعبة. لكن الغربة عن الوطن زادتْه نضجاً، والتعرّف الى أشخاص من مختلف الخلفيات والجنسيات ولّد لديه انفتاحاً على ثقافات جديدة. وقصته باختصار هي قصة اللبناني عبر التاريخ الذي ابتعد عن وطنه الصغير، أو دُفع خارج حدوده، ليحلّق عالياً في آفاق النجاح حيثما وجد.