إنتظار لا ينتهي...

نظرتُ في عينيّ جاكلين زوجة أخي ثم اقتربتُ منها وعانقتها بشدّة. لم أقل شيئا لكني أعلم بأنها علمت ما أقوله في فكري وعلمت لماذا لم أقل شيئا. 

لقد مرّ الثاني من شباط وهو عيد دخول المسيح إلى الهيكل، وفي هذا العيد من كل سنة كانت تجتمع العائلة طيلة خمسة وثلاثين عاما لتصلّي على نية والد جاكلين المفقود ميلاد الخوري. ولأن الإنجيل في هذا العيد يقول في النص "أطلق يا رب عبدك بسلام"، فقد كانت العائلة تطالب الرب بصنع معجزة تكشف مصير ميلاد الذي اختفى سنة ١٩٨٩ ولم يعد يُعرف عنه شيئ. 

كان ميلاد قد صمد مع عائلته في بلدته قرنايل طيلة سنوات الحرب الأولى. وكان على علاقة طيبة مع جيرانه الدروز دون أن يشعر بأي خطر رغم نزوح أكثرية العائلات المسيحية عن قرى الجبل. وكان يحتفظ في بيته بمفاتيح دير مار الياس الذي هجره الرهبان خلال الأحداث. لكنه وبعد احتدام الحرب سنة ١٩٨٩ أرسل زوجته جورجيت وأولاده  للسكن في بيروت واستمر بالتنقل بشكل شبه يومي بين قرنايل ومسكن عائلته إلى أن انقطعت زياراته بشكل مفاجىء. 

بدأت الإتصالات مع الأقارب والمعارف في قرنايل لكنها لم تؤدِّ إلى أي نتيجة وبقي مصيره مجهولا، وبعد أيام وُجدت سيارته في إحدى القرى البعيدة.

كافحت جورجيت لسنوات طويلة وأنفقت الكثير من المال في محاولات للحصول على أخبار عن زوجها ومعرفة مصيره. زارت العديد من المسؤولين في لبنان كما زارت دمشق أكثر من مرة، خاصة أن احتمال اعتقاله في السجون السورية كان واحداً من السيناريوهات المحتملة وهو ما حدث مع الكثيرين، لكن دون جدوى.

هرمت جورجيت وشاخت قبل أوانها، كما أضعفتها الهموم والمرض العضال الذي أصابها حتى رحلت عن هذه الدنيا في تمّوز من عام ٢٠١٩ وهي لا تعلم إن كانت لا تزال زوجة ميلاد الخوري أو صارت أرملته. 

كثيرة هي القصص المشابهة لقصة ميلاد، وهي جريمة تنتجها الحروب فتترك الكثيرين في انتظار أبديّ لأحباء لهم غادروا ولم يعودوا وتجعل الحرب مأساة لا تنتهي.

لا أنسى ذلك الرجل الثمانيني الذي التقيته مرّة في إحدى العيادات. نظر إليّ واستلّ صورة من محفظته وأراني إياها وهو يسأل: هل تعرف صاحب هذه الصورة؟ فأجبته بالنفي. فأخبرني بأنها صورة ابنه الذي اختطف على حاجز مسلّح في بداية الحرب ثم أكمل: لقد انتظرناه طويلا أنا وأمه التي رحلت قبل أن نجده. أنا أعلم بأنني لن أجده، كل ما أحتاجه قبل أن أرحل هو أن أتمكن من وضع زهرة على قبره.