المصدر: النهار
الكاتب: محمد فحيلي
الثلاثاء 28 كانون الثاني 2025 07:33:18
قبل الغوص بأسباب ونتائج الحركة الأخيرة في أسواق السندات السيادية الصادرة عن كيانات متعثرة ومنكوبة اقتصادياً مثل لبنان وفنزويلا، لنبدأ بالحديث عن حقيقة هذه الأسواق.
بعد التعثّر في خدمة الدين السيادي، يتوجه العديد من الدائنين الأصليين (مثل المستثمرين المؤسسيين والمصارف) إلى التخلي عن تفريغ حمولتهم من هذه السندات بأسعار منخفضة للغاية. ويتم شراء هذه السندات من قبل من يمكن وصفهم بـ"صائدي الفرص" أو مستثمري الديون المتعثرة (يُشار إليهم أحياناً بـ"صناديق النسور"). هؤلاء المستثمرون يتخصصون في شراء الديون المتعثرة بأسعار زهيدة، ومن ثم يسعون لتحقيق أرباح إما من خلال ارتفاع الأسعار أو من خلال المفاوضات لإعادة هيكلة الديون. وأي تحسّن في الأسعار السوقية لهذه السندات يمكن أن يحقق عوائد كبيرة لهؤلاء المستثمرين، نظراً للأسعار المنخفضة التي دفعوها عند الشراء. حتى الزيادات الطفيفة في الأسعار يمكن أن تتحول إلى مكاسب كبيرة كنسبة مئوية من استثماراتهم. وغالباً ما يكون المحرك وراء هذه الحركة في التداول في هذه السندات السيادية سياسي (أي استغلال واستثمار حدث سياسي ما) وليس اقتصادي (أيّ تغيّر في المؤشرات النقدية والاقتصادية مثل الاستقرار النقدي، التوازن بين الإيرادات والنفقات في الموازنة العامة للدولة، وغيرها). التحسن في المؤشرات الاقتصادية يجب أن يدفع بالدائنين الأساسيين إلى العودة إلى هذه السوق وشراء هذه السندات في محاولة للتعويض عن بعض الخسائر التي أصيبوا بها سابقاً.
غالباً ما يكون دافع هؤلاء المستثمرين هو السعي للحصول على صفقات إعادة هيكلة مربحة، حيث يمكن لأيّ اتفاقيات سداد أو إعادة جدولة للديون، حتى ولو جزئية، أن تحقّق أرباحاً كبيرة مقارنة بالتكلفة المنخفضة التي تكبّدوها للاستحواذ على هذه السندات. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أنّه من غير الواقعي أو الممكن للدولة المتعثرة أن تستغلّ انخفاض الأسعار لتعيد شراء سنداتها بأسعار زهيدة، خصوصاً بعد اتخاذها قرار التوقف عن سداد الدين دون خطة واضحة لإعادة هيكلة وجدولة ديونها الخارجية (اليوروبوند).
فلو كان هذا التصرف ممكناً من الناحيتين القانونية والأخلاقية، لاتّبعت كلّ الدول التي تعاني من أزمات ديون سيادية النهج نفسه: تتوقف عن السداد عند تفاقم أزماتها، ثم تعيد شراء ديونها بأسعار منخفضة بعد التعثر. وبهذا تكون قد خفّضت عبء ديونها بطريقة أشبه بالتحايل. إن السماح بمثل هذا السلوك من شأنه أن يخلق حوافز سلبية للدول، ما يؤدّي إلى تآكل الثقة في النظام المالي الدولي.
مؤشرات الحياة تعود إلى أسواق السندات السيادية اللبنانية، حركة من دون بركة!
يُنظر إلى الأزمة المالية في لبنان على نطاق واسع على أنها واحدة من أسوأ الأزمات في التاريخ الحديث، حيث تميزت بالانهيار الاقتصادي والشلل السياسي والتخلف عن سداد ديونه السيادية في آذار 2020. وعلى الرغم من هذه الخلفية القاتمة، شهدت سندات اليورو بوند اللبنانية أخيراً ارتفاعاً ملحوظاً في القيمة السوقية، حيث تضاعفت أسعارها خلال الأشهر الثلاثة الماضية. اجتذب هذا الارتفاع غير المتوقع مستثمري المضاربين المتحمّسين لاغتنام ما يرونه فرصة نادرة في الأصول المتعثرة.
وممّا يدفع هذا التفاؤل إلى علامات مبدئية على التقدّم السياسي، بما في ذلك انتخاب رئيس بعد سنوات من الجمود، والتكهّنات بأن القوى الإقليمية يمكن أن تتحول لصالح لبنان. ومع ذلك، تكمن تحت سطح هذه الحماسة المضاربة شبكة من التحديات النظامية: الفساد الراسخ، والحوكمة المتصدعة، والقطاع المصرفي المشلول، والأزمة الإنسانية ذات الأبعاد المذهلة.
مع ارتفاع أسعار السندات السيادية للبنان، يناقش المستثمرون والمحللون ما إذا كان هذا الارتفاع يمثل بداية انتعاش ذي مغزى أو فقاعة عابرة مدفوعة بالمضاربة على المخاطرة. لتقييم النظرة المستقبلية للبنان بشكل حقيقي، من الضروري فصل الضجيج عن الحقائق القاسية على الأرض.
التطورات الرئيسية التي تقود الارتفاع:
يتم تقديم انتخاب رئيس بعد أكثر من عامين من فراغ السلطة كخطوة كبيرة إلى الأمام. في حين أن هذا تطور إيجابي، إلا أن المقال لا يتطرق إلى ما إذا كانت رئاسة جوزف عون ستجلب الوحدة السياسية اللازمة بين مكونات الطبقة السياسية الحاكمة لتنفيذ إصلاحات حاسمة. لقد أعاقت الانقسامات الطائفية العميقة والنخب السياسية الراسخة في لبنان تاريخياً التقدم، وليس هناك ما يضمن أن قيادة عون ستغير هذه الاصطفافات.
إن الفكرة القائلة بأن الهجمات الإسرائيلية تُضعف قبضة "حزب الله" على القرار السياسي والسيادي في لبنان هي فكرة تخمينية وتبالغ في تبسيط المشهد السياسي في لبنان. لا يزال "حزب الله" قوّة مهيمنة، وله تأثير كبير على مؤسسات الدولة الرئيسية. وحتى لو أُضعفت عسكرياً، فإنّ موطئ قدمها السياسي والاجتماعي يجعلها لاعباً حاسماً في أيّ مناقشات لإعادة الهيكلة.
ويعكس ارتفاع السندات من 6 سنتات إلى 17 سنتاً على الدولار في ثلاثة أشهر ارتفاعاً في المضاربة وليس تحسّناً جوهرياً في الوضع المالي للبنان. وغالباً ما تسبق مثل هذه الارتفاعات تقلبات كبيرة، وخاصة عندما تظلّ الأساسيات الاقتصادية الأساسية بعيدة جداً عن أن تكون مطمئنة.
الحقائق الاقتصادية والمالية:
المخاطر والتحدّيات التي تواجه المستثمرين:
الإفراط في التركيز على التحولات السياسية؛ ففي حين يتم تسليط الضوء على انتخاب رئيس وإضعاف "حزب الله" باعتبارهما تطورين إيجابيين، إلا أنهما غير كافيين لمعالجة المشاكل الهيكلية في لبنان.
يعاني لبنان من أسوأ الانهيارات الاقتصادية في التاريخ الحديث، حيث تجاوزت معدلات الفقر 70٪ ونقص واسع النطاق في الخدمات الأساسية مثل الاستشفاء والتعليم والطاقة، وغياب حزام الأمان الاجتماعي. يتم التغاضي عن هذا البعد الإنساني، على الرغم من أنّ له تأثيراً مباشراً على الاستقرار السياسي وجدوى الإصلاحات.
ومن الطبيعي أن يكون هناك دور حاسم لصندوق النقد الدولي في تشكيل تعافي لبنان. ويشكّل عدم التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، بسبب المقاومة السياسية للإصلاحات، عقبة رئيسية أمام الاستقرار الاقتصادي وإعادة هيكلة الديون.
تجمع السندات في لبنان - أمل أم وهم؟
في حين أن الارتفاع الأخير في السندات اللبنانية يعكس تفاؤلاً مضارباً، إلّا أنه منفصل عن الواقع الاقتصادي والسياسي القاسي في لبنان. يفترض المستثمرون الذين يراهنون على إعادة الهيكلة أن النظام السياسي اللبناني المجزّأ يمكنه التغلب على الفساد الراسخ وتنفيذ إصلاحات مؤلمة، وهو احتمال لا يزال غير مؤكد في أحسن الأحوال. ويؤكّد غياب اتفاق مع صندوق النقد الدولي، واستمرار شلل القطاع المصرفي، واعتماد البلاد على المساعدات الخارجية، التي تأخذ طابق إغاثي وليس استثماري، هشاشة هذا التعافي.
قد تمثل السندات اللبنانية بالفعل "تذكرة يانصيب" للمستثمرين العدوانيين، لكنّ احتمالات النجاح تتوقّف على التغييرات الهيكلية العميقة التي فشلت البلاد حتى الآن في تحقيقها. بدون معالجة هذه المشكلات الأساسية، يخاطر الارتفاع بأن يكون قصير الأجل، ما يترك المستثمرين عرضة لخسائر كبيرة.