استخدام إسرائيل للفوسفور يبيد الحياة الزراعيّة في الجنوب

احتضار الزراعة في الجنوب، ليس خبراً إعلامياً وتسجيل موقف سياسي، بل هو، جدّياً، ترجمة فعلية للويل الفوسفوري الذي يعبق في أنوف الجنوبيين، مسبباً لهم أمراضاً عدة، ومتسللاً إلى تربتهم مسمّماً مياههم الجوفية. فإلى موت الغابات والمشاعات الخضراء، وبساتين الأشجار المثمرة التي أحرقها الفوسفور الأبيض الإسرائيلي، نعى الجنوبيون، إلى وقت لن يكون بقليل، تربية النحل، وبدأ بعضهم بفكفكة قفرانها ونقلها إلى أماكن آمنة أو إحراقها بعدما تلقى نصائح علمية بذلك.

صاحب الاستخدام المفرط للفوسفور الأبيض بتقويض النظام البيئي، وتدمير التنوّع البيئي، وجعل الخط الممتد من الناقورة حتى أعالي تلال كفرشوبا على ارتفاع 1500 متر، بعمق 15 كلم تقريباً، الذي يضم مئات القرى والبلدات، أرضاً جرداء محروقة وملوثة، غير صالحة للزراعة ما لم تتم إعادة تأهيلها وتنظيف قشرتها من السموم الفوسفورية، وهو ما قد يحتاج إلى وقت وتمويل كلاهما ليس بقليل.

وصفت منظمة العفو الدولية الفوسفور الأبيض بـ"السلاح الحارق"، فيما أكدت "وكالة حماية البيئة الأميركية" أنه يمكن أن يتسبّب للإنسان بحروق من الدرجة الثانية والتهابات مؤذية، وتلف في الجهاز التنفسي، فضلاً عن الآثار النفسية. وبالإضافة إلى تلوّث المياه الجوفية والينابيع ومجاري الأنهر، لا يوفر الفوسفور الأبيض عند الإفراط في استخدامه الثروة السمكية في البحيرات والبرك المتخصصة. هو باختصار مبيد الحياة في الجنوب، بشقيها البيئي والزراعي، وسم قاتل يترصّد الحياة البشرية لمن بقي صامداً في القرى والبلدات الجنوبية.

حجم الضرر أو نوعه لم يتحدّد بعد بسبب عدم قدرة فرق الوزارة على زيارة أي من الـ55 قرية المتضررة من هذه المادة، وفق ما تؤكد مصادر وزارة الزراعة، التي تلفت الى أن فرق الوزارة جاهزة وتنتظر وقف إطلاق النار للتوجّه مباشرة الى هذه القرى وإجراء كشوفات ميدانية وفحوص مخبرية لمعرفة مدى الضرر الذي ألحقه الفوسفور الأبيض على التربة والمزروعات والثروة النباتية والحرجية.

وفيما تتخوّف جمعيات بيئية وخبراء من الضرر الذي يمكن أن تلحقه هذه المادة بالمزروعات، أكدت المصادر أنه يمكن إزالة 5 سم أو 10 سم من الأراضي المتضررة للتأكد من خلوّها من مادة الفوسفور. أما في حال زراعتها من دون إزالة أيّ سماكة من التراب فقد يؤدّي ذلك الى أمراض خطيرة".

الناشط البيئي الدكتور جهاد نون يوضح أن الضرر الناتج عن استخدام الفوسفور الأبيض يمعن في تدمير الغطاء النباتي، إذ إن هذه المادة تحترق على حرارة عالية (800-2500 درجة) فتؤدي الى احتراق وتفحم النباتات والأشجار الحرجية والمزروعة، بما يؤثر سلباً على تنوّع الغطاء النباتي الطبيعي وعلى الإنتاجية الاقتصادية للزراعة خصوصاً في بساتين الزيتون وسائر الزراعات البعلية. وما يسهم في تقاقم الوضع بحسب نون أن "النشاطات الحربية والتعديات التي رافقت أحداث تشرين الأول الماضي منعت المزارعين من الاهتمام بأراضيهم فبقيت معظم البساتين بدون حراثة وتنظيف ونمت فيها وحولها الأعشاب الموسمية القابلة للاشتعال. عدا عن ذلك، فإن كثافة افتعال الحرائق بواسطة القصف الفوسفوري، أدّت الى احتراق وتضرر القاعدة الخشبية للأشجار بما يحتم إعادة تربيتها من مستوى القاعدة، علماً بأنها ستحتاج على الأقل الى خمس سنوات لتصبح منتجة من جديد وأكثر من عقد لتعاود إنتاجتيها التجارية. هذا إلى الضرر المباشر الذي تكبّده مزارعو الزراعات البعلية السنوية كالقمح، والبيقية والحمّص والشعير الذين احترقت مواسمهم بشكل كامل قبيل حصاد الموسم بأيام". ولا يشكل مربّو النحل استثناءً مع تضرّر مراعي النحل تضرراً كبيراً واحتراق بعض المناحل...

ووفق نون، لا يُعتبر "الفوسفور الأبيض سلاحاً كيميائياً ممنوعاً بحسب معاهدة الأسلحة الكيميائية ولا توجد أي معاهدة دولية تمنع الجيوش من استخدامه. ثمة فقط تحذير من استخدامه في الأماكن السكنية والمدنية".

كيف تؤثر هذه المادة على الإنسان والمزروعات والبيئة؟ يلفت نون الى أن مادة الفسفور في الأساس هي مادة مخصبة للتربة كالبوتاسيوم والنايتروجين، حتى إنه موجود في العظام، لكن استعماله المفرط وتحلله في التربة وانتقاله نحو المياه الجوفية قد يؤدي الى تكوّن مركب فوسفوري سامّ للإنسان والكائنات المائية هو الفوسفين 3PH في ظروف لاهوائية. أما عن الحروق الجلدية، فيقول "إذا احترق أحد الأشخاص بهذه المادة يكون الأذى كبيراً، إذ إن هذه المادة قد تكون مجبولة بالكاوتشوك الذي يلتصق على الجلد أو الملابس فتبدأ بالاحتراق التلقائي بدءاً من حرارة 30 درجة ولا يمكن إطفاؤها بالماء أو بالوسائل التقليدية وكلما تعرضت للهواء تشتعل من جديد حتى نفادها وقد تخترق الجلد لتصل الى العظام مسبّبة آلاماً مبرّحة. بالنسبة إلى الضرر الإشعاعي على البيئة، يوضح نون أنه "غير موثّق أن الفوسفور الأبيض ليس من نظائر الفوسفور المشعّة".

خسارة موسم التبغ

خسائر القطاع الزراعي تشمل "شتلة الصمود" (التبغ)، إذ خسر الجنوب الموسم الزراعي لعام 2024 خصوصاً أن زراعة التبغ تبدأ في شهر نيسان، ويتم قطافها في شهر تموز.

المدير في مؤسسة حصر التبغ والتنباك جعفر الحسيني أكد لـ"النهار" أن زراعة التبغ هي مصدر رزق أساسي لنحو 8 آلاف عائلة في الجنوب خصوصاً المناطق التي تتعرّض لأعمال حربية واعتداءات إسرائيلية بشكل مباشر أو غير مباشر. هذه العائلات تستثمر نحو 3 آلاف دونم، مع عائدات قدرت بنحو 15 مليون دولار عام 2023.

الإيجابية أن "الريجي" تسلمت محصول التبغ لعام 2023 قبل موعده، وتم تسديد المبالغ للمزارعين بالدولار النقدي عبر شركات تحويل الأموال. ولكن المشكلة برأي الحسيني تتعلق بموسم 2024، إذ إن نحو 44 قرية جنوبية من القرى التي تزرع التبغ متاخمة للحدود وهي حتماً خالية من سكانها وتالياً لا إنتاج للتبغ فيها هذا الموسم. هذه القرى تشكل نحو 40% من مزارعي التبغ في الجنوب، وتنتج نحو 42% من محاصيل الجنوب. أما بالنسبة لبقية القرى في الجنوب، فثمة 13 قرية تتعرّض بين الحين والآخر للقصف، لذا لم يبادر أهلها الى زراعة أراضيهم التي تنتج نحو 7% من إجمالي إنتاج الجنوب.

ويتخوّف الحسيني من عدم القدرة على التعويض على المزارعين خصوصاً أولئك الذين أصيبت أو دُمّرت منازلهم، بما قد يشكل عائقاً أمام عودتهم الى بيوتهم ومباشرة الزراعة والإنتاج.

ويضيف "يؤثر استخدام القذائف الفوسفورية سلباً على الأراضي الزراعية عموماً ومن بينها حقول التبغ، إذ إن رواسب القذائف الفوسفورية تترك آثاراً على جودة التربة لسنوات طويلة".