المصدر: النهار
الكاتب: سركيس قصارجيان
الجمعة 28 آذار 2025 09:28:24
عاد الاقتصاد التركي إلى مرحلة "عدم اليقين" مجدداً، ليطيح اعتقال رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو والتطورات اللاحقة بنتائج جهود مكافحة التضخم خلال العام الماضي، التي وإن اعتُبرت غير كافية، إلا أنها نجحت في ترقية تصنيف البلاد الائتماني من قبل وكالات التصنيف الدولية.
قهوة الإسبريسو المثيرة للجدل
وأبدى الرئيس التركي رجب طيب إردوغان رد فعل قوياً على دعوات المعارضة للمقاطعة، ما فُسر من قبل الأتراك كإشارة إلى فاعليتها. وقال إردوغان: "لن نعطي فرصة للسياسيين الطامعين الذين يطلقون دعوات للمقاطعة غير المسؤولة، والذين يعبثون بمصالح التجار، ولقمة عيش العمال، ويسعون لإفلاس الصناعيين والمستثمرين".
دعوة المعارضة "لاستخدام قوتها الاستهلاكية" ضد وسائل الإعلام المتجاهلة للأحداث، دفع "اتحاد شركات الأعمال التركية" (TÜRKONFED)، الذي يضم 31 اتحاداً و373 جمعية ويمثّل أكثر من 100 ألف شركة، لإصدار بيان حول حملة الاعتقالات شدد على أن "سيادة القانون هي الضمان الأساسي للمجتمع".
ووصف الاتحاد التطورات الأخيرة بأنها "لا تجد صدى في الضمير العام، وتترك انطباعاً بأن العملية القضائية لم تجرِ بحيادية كافية، وتثير القلق والانزعاج بشأن الشرعية الديموقراطية والحقوق والحريات الأساسية"، معتبراً أن "فقدان القدرة على التنبؤ القانوني يزيد من حدة التوتر المجتمعي ويؤثر على الأسواق، والشركات الصغيرة والمتوسطة بشكل خاص".
كما اضطرت بعض الشركات المستهدفة إلى إصدار بيانات توضيحية، وقام بعضها الآخر بتغيير أسمائها، وذلك بعدما أنشأ حزب الشعب الجمهوري موقعاً إلكترونياً "boykotyap.com" لنشر أسماء الشركات التي ستشملها المقاطعة.
واستهدف زعيم الحزب أوزغور أوزيل إحدى العلامات التجارية الشهيرة لقهوة الإسبريسو في البلاد، قائلاً: "لنبدأ بشرب فنجان قهوة، لكن لا تشربوا من (العلامة التجارية المذكورة) مهما كان".
رداً على هذه الدعوة، توجّهت مجموعة من برلمانيي حزب "العدالة والتنمية" إلى المقهى المذكور بعد الإفطار، وبثوا فيديوهات من داخله تأكيداً على دعمهم للعلامة التجارية، فيما أقام آخرون الصلاة في الشارع أمام المقهى كتعبير عن دعمهم له.
ومن المتوقع أن تشكّل دعوة المقاطعة نقطة تحوّل في تركيا، إذ لن يعود كافياً العمل بخصائص حماية البيئة والمساواة بين الجنسين، بل سيتعين على الشركات الكبرى أيضاً أن تُظهر التزامها بقيم وأولويات المجتمع، وأخذها على محمل الجد.
خسائر اقتصادية
ونفى نائب الرئيس التركي جودت يلماز التقارير التي تشير إلى تأثير اعتقال إمام أوغلو سلباً على الاقتصاد، قائلاً إنه "قد يكون هناك تأثير جزئي على المدى القصير جداً، ولكن سيتم تعويضه من خلال اتخاذ التدابير اللازمة ضمن ميزانيتنا"، إلا أن مؤشرات السوق ونتائج استطلاعات الرأي تتعارض مع هذه التطمينات.
وكشف استطلاع للرأي أجرته شركة ForInvest بشأن التضخم وسعر الدولار مقابل الليرة التركية لشهر آذار/ مارس، أن متوسط توقعات الاقتصاديين للتضخم السنوي ارتفع إلى مستوى 38.67%، بعدما كان 28.25% قبل اعتقال إمام أوغلو، فيما أشارت التوقعات إلى أن سعر صرف الدولار قد يصل إلى 43 ليرة بنهاية عام 2025.
وانخفض صافي احتياطات البنك المركزي التركي بنحو 26.6 مليار دولار خلال الأسبوع الأول من اعتقال إمام أوغلو، نتيجة لضخ كميات كبيرة من الدولار في السوق لتجاوز صدمة الاعتقال على سعر الصرف، إذ تم ضخ 11.22 مليار دولار في اليوم الأول، و2.97 مليار دولار في اليوم الثاني، و12.39 مليار دولار نهاية الأسبوع. ويعادل هذا الانخفاض تقريباً نصف صافي الاحتياطات التي جمعها المركزي التركي على مدار العام الماضي.
كذلك، تحركت هيئة التنظيم والرقابة المصرفية (BDDK) وصندوق الثروة السيادي التركي (TVF) للحفاظ على قيمة الشركات المدرجة في بورصة إسطنبول والحد من عمليات شراء الدولار، إذ لعبت المصارف الحكومية، مثل "زراعات بنك"، "هالك بنك"، "وقف بنك"، و"غارنتي بنك"، دوراً رئيسياً في دعم السوق، كما فعل "زراعات بنك" الذي قام بشراء 5.8 مليارات ليرة تركية من الأسهم.
دوامة جديدة من المخاطر الاقتصادية
ويمر الاقتصاد التركي بمرحلة من "عدم اليقين" مرة أخرى، بعد سنوات من التضخم المرتفع، وارتفاع أسعار الصرف، والصعوبات التي تواجه الفئات الاجتماعية ذات القوة الشرائية المنخفضة. ورغم أن جهود مكافحة التضخم خلال العام الماضي اعتُبرت غير كافية، إلا أن تركيا حظيت بترقيات في تصنيفها الائتماني من قبل وكالات التصنيف الدولية. ومع ذلك، تعيش البلاد الآن فترة توتر جديدة تتمحور حول القانون والسياسة، ما يزيد المخاوف من تأثيرات دائمة على الاقتصاد.
وبدأ المستثمرون الأجانب بالعودة تدريجياً إلى تركيا منذ نهاية عام 2023، حيث اشتروا حوالى 30 مليار دولار من الأسهم والسندات التركية، مستفيدين من السياسات النقدية التي ركزت على مكافحة التضخم ورفع معدلات الفائدة.
لكن الأحداث الأخيرة دفعت العديد من المستثمرين الأجانب إلى الخروج من السوق التركي، حيث تؤكد المعارضة خروج نحو ثلث الأموال الساخنة التي دخلت إلى تركيا خلال العام الماضي، ما دفع الحكومة للتركيز على الإجراءات التي تستهدف المستثمرين المحليين.
وأصدرت وكالة "ستاندرد آند بورز" (S&P) تقريراً تحذر فيه من أن المكاسب الاقتصادية التي حققتها تركيا منذ نهاية 2023، والتي أدت إلى تحسين تصنيفها الائتماني، أصبحت الآن معرضة للخطر بسبب التوترات السياسية الأخيرة.
ويؤكد خبراء اقتصاديون أن أزمة اعتقال إمام أوغلو هي أزمة سياسية في الأساس، لكن تداعياتها على الاقتصاد ستكون خطيرة، ضمن دوامة ستؤدي إلى استمرار الضغوط على سعر الصرف بسبب تصاعد المخاطر السياسية، ما سيؤدي إلى ارتفاع سعر الصرف وبالتالي إلى زيادة التضخم، بالتوازي مع زيادة تكاليف الاقتراض الخارجي.