اقتصاد الكاش موضع استياء خارجي وإفادة محلية

لولا زيارة نائب مساعد وزير الخزانة الأميركية لشؤون آسيا والشرق الأوسط في مكتب تمويل الإرهاب جيمس بيكر لبيروت وطرحه أسئلة حول الاقتصاد النقدي أو ما يُعرف بـ"اقتصاد الكاش" الخارج عن النظام المصرفي، لكان هذا الموضوع طبيعياً جداً بالنسبة إلى السلطات اللبنانية التي تقبّلت هذا الواقع المستجد نتيجة التعثر المصرفي وحجز الودائع وانهيار العملة الوطنية، بحيث تستعيض عن التداولات المصرفية بالدولار النقدي الذي يجري التداول به في السوق اللبنانية بحرية ومن دون أي رقابة أو تساؤلات عن مصدره أو وجهته.

أسهم اقتصاد الكاش في ولادة فئة جديدة من اللبنانيين الذين باتوا يُعرفون بالأثرياء الجدد الذين نجحوا في تكوين ثرواتهم من قطاعات اشتهرت وازدهرت في زمن الأزمة، كالصرّافين أو أصحاب محطات المحروقات أو المطورين العقاريين أو أصحاب المولدات. فبحسب تقديرات البنك الدولي، بات اقتصاد الكاش يشمل ما نسبته ٤٦ في المئة من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي الذي تراجع بدوره، وبفعل انهيار العملة من ٥٥ مليار دولار إلى نحو ١٧ ملياراً.

ويفاخر رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي بأن حكومته نجحت في تقليص حجم الموازنة من ١٧ مليار دولار إلى ٣ مليارات، غافلاً عن أن هذا التراجع لا يعود إلى سياسة عصر نفقات بل إلى انهيار العملة، كما أن التفاخر بصفر عجز في الموازنة يغفل أيضاً احتساب كلفة الدين وخدمته بعد أن أعلن لبنان التخلف عن سداد ديونه السيادية.

قد يستمر اقتصاد الكاش طويلاً وقد ينتعش أكثر في ظل السياسات المالية والنقدية القائمة حالياً التي تشجع على هذا المنحى الرامي في حيز كبير منه إلى منع القطاع المصرفي من استعادة عافيته والثقة المحلية والخارجية به، تمهيداً لإعادة هيكلته بما يتوافق مع نظام المحاصصة الجديد الذي سينتج عن التسوية المقبلة. وهذا كان هدفاً أساسياً في ضربه وتعطيل وتأخير إقرار أي خطة إصلاحية من شأنها إعادة تنظيم القطاع وإعطاء الفرصة أمام المصارف القادرة على إعادة الرسملة لتبادر إلى تصحيح أوضاعها وتنظيف ميزانياتها. وهي لا تقوم بذلك حالياً، ولا تسعى إلى استعادة دورها الخدماتي في ظل توجسها مما يحاك للقطاع ولأصحاب المصارف والمساهمين في مجالس إدارتها، في ظل غياب أي خطة شفافة وواضحة تعكس النيات الحقيقية. ذلك أن كل الخطط الموضوعة سابقاً منذ خطة حكومة حسان دياب وصولاً إلى آخر مشروع قانون لإصلاح المصارف شكّل توجساً لدى أصحاب المصارف دفعهم إلى رفضها ومحاربتها. وحتى الآن، وبعدما تأجّل البحث في المشروع أمام مجلس الوزراء في انتظار ملاحظات الوزراء، لا يبدو أن هناك نية حقيقية لمعالجة هذا الملف الشائك تمهيداً لإعادة الانتظام إلى العمل المصرفي على نحو يستعيد ثقة الداخل والخارج بالمصارف ويضع حداً للتداول النقدي الذي يهدّد لبنان ويعرّضه للعقوبات أو لإدراجه على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالية الدولية.

سبب آخر يجعل القوى السياسية المستفيدة من اقتصاد الكاش تستمر في دعم هذا الخيار وتأخير أي إصلاحات مرتقبة أو حتى الدخول في برنامج مع صندوق النقد الدولي، أنه يساعد على استمرار عمليات تمويل المنظمات والأحزاب كما هي الحال مع تمويل "حزب الله" أو حركة حماس التي اشتكى منها مسؤول الخزانة الأميركية.

لا شك في أن الحل سهل لمواجهة آفة الاقتصاد النقدي، ويكمن في تشدّد المصرف المركزي في تطبيق معايير الامتثال المالي والضريبي والتشدد في مكافحة عمليات تبييض الأموال وتمويل الإرهاب على نحو يوجّه رسالة جدية حول التزام لبنان المعايير الدولية. ويكمن الحل أيضاً في مبادرة الدولة إلى حسم الملف المالي والمصرفي وإنهاء أزمة احتجاز الودائع من خلال إجراءات عملية تعيد الثقة إلى القطاع المصرفي. وغير ذلك، سيتحوّل لبنان في شكل كامل ملاذاً للتهريب والتهرب المالي والضريبي والفساد وتمويل الإرهاب وغسل الأموال!