المصدر: independent arabia
الكاتب: بشير مصطفى
الأربعاء 11 كانون الثاني 2023 12:28:12
كتب بشير مصطفى في اندبندنت عربية: وضع الانهيار المالي الموظفين والطبقة العاملة في لبنان أمام معركة حتمية لتصحيح أجورهم، إذ أدى تراجع سعر العملة الوطنية الليرة بحدود 30 ضعفاً إلى تآكل في أجورهم وخرجت الأكثرية من دائرة الاكتفاء إلى الفاقة والعوز وتأتي شريحة الموظفين الحكوميين وأولئك الذين يتقاضون أجورهم بالليرة اللبنانية في مقدمة المتأثرين بالواقع المستجد.
بدأت المطالبات بتصحيح الأجور في القطاعين العام والخاص، إلا أن تلك المطالب لم تقابل بخطوات جذرية وإصلاحية، وجل ما يتم اتخاذه مجموعة من الإجراءات الموقتة على غرار إقرار بدلات "غلاء المعيشة" أو زيادة "أجر إضافي" التي سرعان ما تتبدد بفعل التضخم الكبير.
في موازاة ذلك يبقى مستبعداً إقرار سلسلة جديدة للرتب والرواتب على غرار ما جرى في تموز 2017، إذ إن تطبيقها أظهر عدم امتلاك الدولة اللبنانية لقاعدة بيانات دقيقة وواضحة تخولها وضع خطط استراتيجية، فكانت كلفة السلسلة أكبر بكثير من تقديرات وزارة المال وبلغت عام 2018 ملياراً و318 مليون دولار، وهو مبلغ يفوق الأرقام التي وضعتها الوزارة عند إقرار السلسلة في مجلس النواب بـ325 مليون دولار تقريباً.
أجور لا تكفي الحاجات الأساسية
تعجز الكلمات عن وصف حال الضيق التي تعانيها الأسرة اللبنانية، فالغالبية الصامتة من المواطنين لم تعد قادرة على تأمين الحاجات الأساسية. تقول غادة (موظفة عمومية) "المعاش يتبخر سريعاً ولا يكفي لشراء شيء" وتجزم "لم نعد نبحث عن الرفاهية، نريد فقط شراء الأساسيات، لم تعد الأجور كافية لتأمين الطعام أو الشراب والمحروقات للانتقال إلى مكان العمل"، وتضيف "لم يعد بإمكاننا أن نمرض لأن العلاج أصبح بالدولار الفريش، وإذا تعرض الشخص لرشح حاد واحتاج إلى معاينة طبيب وخافض حرارة ومضاد حيوي فإنه يفقد معاشه"، وتعرب السيدة عن أسفها، "أصبح الموظف الصالح في موقع الشفقة لدى الناس ويسألونه إذا ما كان بحاجة إلى صندوق إعاشة غذائية أو بعض الدعم المادي من الخارج".
تختصر حال السيدة أوضاع كثر من الموظفين الذين انهارات أوضاعهم سريعاً على غرار الليرة اللبنانية، فانتقلوا إلى حال بائس.
يكفي أن نعطي مثالاً توضيحياً، "أجير كان يتقاضى 3 ملايين ليرة لبنانية في الشهر، كانت تساوي 2000 دولار أميركي، باتت اليوم دون 70 دولاراً أميركياً"، بالتالي لن تنفع الإجراءات الارتجالية في ترميم أوضاعهم إلا إذا ما اتجهت نحو دولرة الأجور على غرار ما يجري في السوق ودولرة السلع.
الحد الأدنى للأجور
تحركت لجنة مؤشر غلاء المعيشة في وزارة العمل من أجل تصحيح الأجور في لبنان وتكشف أوساطها عن أن "عمليات تصحيح الأجور حالياً تأخذ طابع المتحركة بسبب التضخم وارتفاع أسعار الدولار مقارنة بالعملة الوطنية"، وتؤكد أن اللجنة تعقد اجتماعات متتالية، وسيكون لها اجتماع، نهار الجمعة المقبل 13 يناير (كانون الثاني) الحالي، برئاسة وزير العمل مصطفى بيرم و"تنتظر قرارات تعديل الأجور في القطاع الخاص".
تعتمد اللجنة مؤشراً بنّاء لعملية احتساب تقوم بها إدارة الإحصاء المركزي الممثلة في اللجنة و"على أساس هذا المؤشر يتم اقتراح زيادات الأجور في الحالة الطبيعية وليس في واقع الأزمة". وتضم اللجنة مندوبين عن وزارة العمل والاتحاد العمالي العام وأصحاب العمل والهيئات الإقتصادية، إضافة إلى ممثلي الهيئات المدنية مثل الجامعة اللبنانية.
كما تفيد المعلومات المتداولة عن اتفاق مبدئي بين هيئات أصحاب العمل والأجراء على اقتراح زيادة غلاء معيشة على الحد الأدنى للأجور ليصبح 4 ملايين ونصف المليون ليرة بعدما كان 675 ألف ليرة وفق الحد الأدنى الرسمي للأجور المعمول به حالياً، وكذلك زيادة بدل النقل اليومي إلى 125 ألف ليرة عوضاً عن 95 ألف ليرة، ناهيك عن مضاعفة المنح المدرسية بمعدل ثلاث مرات وكذلك الأمر بالنسبة إلى التعويضات العائلية.
نهاية القطاع العام
أرخت الأزمة بظلالها على القطاع العام في لبنان ودخلت الإدارة العامة في مرحلة التعطيل القسري، فيما يداوم الموظفون بين يوم أو يومين كحد أقصى في الأسبوع، ويبرر هؤلاء أن بدل النقل 95 ألف ليرة غير كافٍ لتأمين وصولهم إلى إداراتهم بحيث يتطلب أضعاف ذلك في ظل تجاوز صفيحة البنزين 700 ألف ليرة لبنانية ويجزمون أنهم "يعملون على قدر المستطاع" ويستمرون بالحضور في أيام محددة من أجل تسيير مصالح المواطنين.
في المقابل يصوبون على مسألة الموظفين المنضمين إلى مشاريع ممولة خارجياً، ذلك أنهم "وحدهم الذين يتقاضون أجوراً بالدولار من الجهات المانحة ويواظبون على العمل يومياً لأنهم لم يتأثروا بانهيار الليرة، إضافة إلى المديرين الذين يحصلون على بدلات تمثيل وحضور لجان".
أما القطاع التعليمي، فدخل مرحلة من الفوضى بفعل "الشقوق العميقة" التي ترسخت بين الأساتذة ونقابات المعلمين ودخل جزء كبير من قطاع التعليم في مرحلة التعطيل القسري أو الإضراب، ودعت روابط التعليم الرسمي إلى الاعتصام، الأربعاء المقبل في 11 يناير، رداً على "الإهانة" الصادرة عن وزير التربية عباس الحلبي وإعلان منح الأساتذة خمسة دولارات كبدل إنتاجية عن كل يوم عمل، الأمر الذي عده هؤلاء تقليلاً من شأنهم ومن مكانة القطاع التعليمي. وفي وقت لاحق أعلن الحلبي سحب هذا الطرح من التداول لأنه "لم يدر في خلده أن يتم اعتبار مسعاه سبباً لجرح كرامات أفراد الهيئة التعليمية".
في محاولة لتخفيف وطأة الأزمة، أقر قانون موازنة 2022 في لبنان إعطاء زيادة للعاملين في القطاع العام والمتقاعدين بمعدل ضعفي أساس الراتب واشترط ألا تقل الرواتب عن 5 ملايين ليرة وألا تتجاوز 12 مليون ليرة لبنانية. وبحسب دراسة أنجزتها "الدولية للمعلومات" فإن هذه الزيادة ألغت الفوارق بين الفئتين الرابعة والخامسة بحيث أصبح الحد الأدنى للدخل للفئتين 5 ملايين ليرة لبنانية.
يقلل موظفو الإدارة العامة من أهمية الزيادات التي جاءت بها الموازنة في ظل الانهيار المالي والاقتصادي وترفض رئيسة رابطة موظفي الدولة نوال نصر اعتبارها تصحيحاً للأجور لأنها "هزيلة" وبمثابة مساعدة لموظف خسر راتبه نسبة 97 في المئة من قيمته وأصبح يوازي 4 دولارات يومياً، فيما الإنفاق بفعل انفلات الأسواق وسعر الصرف وغياب الرقابة، وبات الراتب "لا يؤمن أكثر من الخبز يومياً، وماذا عن الغذاء والدواء والتدفئة والاتصالات ومعضلة الاستشفاء إذ إن الموظف يموت على باب المستشفى بسبب عدم حيازته على الفريش دولار وغيرها من النفقات التي لا ترقى إلى الكماليات؟"، كما تدحض محاولة تحميلهم مسؤولية الانهيار لأن زيادة الأجور التي جاءت في 2017 كانت ضئيلة للغاية مقارنة بحجم الهدر والفساد الذي ترعاه السلطة.
مساواة الأجور بأسعار الخدمات
شهد لبنان أخيراً رفعاً للدعم عن السلع وزيادة في رسوم الخدمات كالاتصالات والكهرباء والجمرك لتتلاءم مع ارتفاع الدولار. من هذا المنطلق تطالب نوال نصر بأن "تتكيف أجور الموظفين مع زيادة أسعار الخدمات"، مؤكدة أن "الموظف أصبح خارج الحياة والدورة الاستهلاكية والاقتصادية".
وتشدد نصر على أولوية الاستشفاء وتطالب الدولة بالتدقيق في أسعار المستلزمات الطبية من بلد المنشأ لأن أجور العمال لم تعد قادرة على تأمينها بسبب تسعيرها بالدولار الفريش. كما تدعو إلى تفعيل المؤسسات الضامنة الخاضعة لوصاية الدولة اللبنانية وتوسيع صلاحياتها في استيراد المستلزمات الطبية، وكذلك رفع المنح التعليمية، وتكرر أن "لا فائدة من سلسلة رتب ورواتب جديدة في حال لم تلحظ الدولرة الشاملة الحاصلة في البلد، عليه لا بد من دولرة تدريجية للأجور وتعويضات الصرف ونهاية الخدمة التي باتت لا تساوي أكثر من 3 في المئة من قيمتها الحقيقية بعد أن بلغوا السن القانونية وصاروا في الشيخوخة".
تخلص نصر إلى أن "عدم تمكين شريحة تشكل مع عائلاتها ثلث الشعب اللبناني، هو ما يؤثر في التوازن الاجتماعي والاقتصادي ولا يمكن التذرع تحت أي ظرف أن زيادة الرواتب تسبب التضخم والانهيار لأن ذلك غير صحيح فهي ضرورة لتحريك الاقتصاد".
السوق الحرة وتصحيح الأجور
يقود تشخيص المشكلة السابقة إلى السؤال عن نضوج الظروف لتصحيح الأجور في لبنان. في هذا السياق يوضح الأكاديمي المتخصص في الاقتصاد باتريك مارديني أننا "نشهد عمليات تصحيح أجور تلقائية في عدد من القطاعات في لبنان، تحديداً في الشركات التي سرحت فائض العمال وحاولت وقف استنزاف الطاقة البشرية بفعل الهجرة، ومن أجل الحفاظ على الكفاءات بدأت تدفع جزءاً من الأجور بالدولار، كما أقرت زيادات على قدر إنتاجية الموظف من أجل تأمين الاستمرارية".
من جهة أخرى يعتقد مارديني بأن "ليس من مصلحة الدولة اللبنانية المساس بالحد الأدنى للأجور لعدم تعميق الركود الذي تمر به البلاد"، مضيفاً، "كثير من الدول بدأت تبتعد من تحديد الحد الأدنى للأجور وتركه للسوق وأن تدفع كل شركة بحسب القدرة والإمكانات"، ويلفت إلى أنه "يجب أخذ إنتاجية الموظفين في الاعتبار عند تصحيح الأجور لأن إقرار أجور أعلى من الإنتاجية سيؤدي إلى تعثر المؤسسات، ومن ثم التخلي عن الأجراء وتسريحهم"، منتقداً الزيادات في القطاع العام التي لا تعتمد معيار الإنتاجية وتعطى بصورة عشوائية للجميع، لأن مضاعفة الأجور التي تم إقرارها غير ممولة وقد تقود إلى تعاظم المشكلة الاقتصادية لأن الحكومة ستتجه إلى مزيد من طباعة الليرات، وهذا سيغذي التضخم وستلتهم قيمة الزيادة، و"ما أعطي في يد سيؤخذ باليد الأخرى" لأن "العبث بالأجور يعطي نتائج عكسية على رغم النوايا الحسنة من ورائه على غرار تحسين الوضع المالي للموظفين".