الأزمة الاقتصادية غيّرت الكثير... الحرف الحرة وجهة مهنية جديدة للشباب اللبناني

لطالما كانت وجهة الشباب العملية في لبنان هي الدراسة في الجامعات والتخرّج باختصاصات عليا، إمّا إرضاء لأهاليهم أو بسبب امتيازات معينة توفّرها هذه الاختصاصات، في حين كانت الأعمال المهنية تقتصر على أشخاص غير متعلّمين، امتلكوا "صنعة" أو من قِبل جنسيات غير لبنانية لا يتعيّبون من أي مهنة كانت.
 
لكن الأزمة الاقتصادية غيّرت من الواقع الاجتماعي في جوانب عديدة لدى المجتمع اللبناني لا سيما على مستوى الأعمال والوظائف.
 
هبة، مهندسة مدنية بدأت تعمل في النجارة مع والدها منذ ثلاث سنوات. تقول: "لطالما سمعت كلمة لا تختاري العمل الذي يوسّخ ملابسك فأنت أنثى، لكنّني وجدت نفسي في هذا المكان".
وبنظرها "النجارة هي فن وشغف وهذان الأمران ليسا عيباً أبداً لكن العيب على مَن يستعيب بعمل المعلّمين لا سيما إذا كانوا من النساء".
 
ولطالما سمع إدوارد جملة "أنت كلبناني لا تفلح بأي شيء، فأنت غنّوج". لكن برأيه، "هذه الجملة غير صحيحة بتاتاً". إدوارد حائز على شهادات عديدة بالأتمتة والكهرباء، لكنّه قرّر تخصيص مشغلٍ للأعمال المهنية لتعليم الشباب هذه المهن، إلى جانب عودته إلى حراثة الأرض وإلى تربية المواشي، "فنحن كشباب عاملين في هذه المهن أكبر دليل على أنّ ما نسمعه عن اللبناني الغنّوج ليس صحيحاً".
 
منصة لدعم الحرف الحرة
انطلقت منصة "ضربة معلّم" في شهر أيار، وهي منصة تربط الزبون بـ"المعلمين"، أي أصحاب المهن مثل النجار والدهان والسمكري، اللبنانيين حصراً.
 
‏ويتحدّث سيرج خير الله، مؤسِّس المنصة، أنّها تهدف إلى تشجيع الشباب للتوجّه إلى امتهان هذه المهن التي باتت نادرة، مع صعوبة إيجاد معلّمين اليوم في هذه الأعمال المهنية، إلى جانب تأمين فرص عمل للشباب.

ويورد أنّ الإقبال على المنصة كبير، سواء من معلّمي هذه المهن أو من أصحاب ورش، أي الزبائن. كذلك، وفيما يمرّ لبنان بفترة اقتصادية صعبة، هناك شباب كثر غير قادرين على استكمال تعليمهم وتسديد أقساط جامعاتهم، نراهم يتّجهون إلى هذه الأعمال المهنية، إلى جانب أشخاص مهندسين مثلاً يحبّون الأعمال المهنية هذه أيضاً.
 
‏وعن سبب اندفاع الشباب نحو هذه الحرف، برأي خير الله أنّ بالدرجة الأولى، هؤلاء الأشخاص يتّجهون إليها كونها تشكّل مصدر دخل لامتواصل في كل الأزمنة والأمكنة، وهناك مَن يحب العمل فيها. ورغم أنّنا اليوم في عصر الذكاء الاصطناعي، لم تلغِ هذه التقنية هذه الأعمال ولا نزال بحاجة لليد العاملة. 
 
ما سبب اندفاع الشباب اللبناني إلى هذه الحرف؟
 
في حديثه لـ"النهار"، يفيد الباحث والأكاديمي الدكتور شوقي عطية أنّ أي تغيير مهني، وهو يعتبر تغييراً اجتماعياً، هو بحاجة إلى سبب، وكلّما كان التغيير كبيراً، كلّما كان السبب أخطر وأعمق.
 
والتغيير الاجتماعي هو نوعان: النوع البطيء والطبيعي والنوع الجذري. لكن حالياً، التغيير الاجتماعي الحاصل في المجالات المهنية في لبنان هو ما بين النوعين. فبعد الأزمة الاقتصادية التي حلّت أواخر عام 2019، الشباب المقبل على سوق العمل والذي كان إمّا في فترة التعليم أو في بداية حياته العملية، وجد نفسه أمام وضع جديد غيّر له الصورة النمطية حول المهن والوظائف.
 
فسابقاً قبل الأزمة، كان يتحمّس الناس كي يتوظّفوا في القطاع العام لما كان يوفّره من استقرار وظيفي، وشريحة أخرى من الناس كانت تهتم بالمهن الحرة العليا كأطباء ومهندسين ومحامين وصيادلة، بينما اليوم نسبة كبيرة من الأطباء مثلاً هجروا لبنان بعد الأزمة.
 
وشكّل تراجع القدرة الشرائية وتدنّي قيمة الرواتب، استفزازاً للشباب، بحيث بدأوا بالتخلّي عن التوجّه نحو المهن الحرة العليا، بحسب عطية. وأمام تقاضي أصحاب الحرف الحرة مثل الدهّان والنجّار وغيرهما من الحرفيين، بدل أتعابهم بالدولار منذ بداية الأزمة، وتفوق قيمة أتعابهم أجور موظفي القطاع العام، أدرك الشباب أهمية هذه الحرف.
 
وبرأي عطية، كان السوق اللبناني مغرقاً تماماً بالوظائف، ومن أصحاب المهن الحرة الذين يتخرّجون بأعداد هائلة. فلبنان من أكثر الدول التي تضمّ عدد أطباء كبير نسبة إلى عدد سكانه، وهذا أمر جيد لكنّه يكوّن تخمة في السوق، والأمر سيان بالنسبة إلى المهندسين والمحامين. بينما في جميع دول العالم الاتجاهات المهنية الأولى هي نحو الحرف. 
 
والتوجّه لدراستها والتخصّص فيها في المعاهد الفنية هو أمر بغاية الأهمية، لا بل هو مطلوب لتأمين سوق عمل للشباب وعدم الاضطرار إلى اللجوء إلى يد عاملة غير لبنانية لتنفيذ هذه الأعمال، ولبقاء إيرادات هذا القطاع في لبنان. إلى جانب المحافظة على هذه المهن التي لا تموت والتي نحن بحاجة كبيرة إليها، بينما يشهد القطاع العام إشباعاً بعدد موظفيه، كما أنّ القطاع الخاص يشهد تناقصاً لموظفيه بسبب الأزمة. 
 
من جانبه، يوضح نائب رئيس جمعية الصناعيين في لبنان زياد بكداش في حديث لـ"النهار" أنّ التوجّه نحو الحرف الحرة هو توجّه عالمي وليس محلياً فقط. فالطلب على هذه المهن اليدوية يرتفع بسبب تراجع عدد ممارسيها. ويفتح المجال المهني باب فرص عمل أكثر، لكون سوق العمل يطلب ويهتم بشكل كبير بالتقنية أكثر من حمَلة الشهادات. 
 
أمّا الناحية الربحية في هذه الحرف، فيورد بكداش أنّ مستقبل هذه المهن يوفر ربحاً كبيراً، فبمجرّد ارتفاع الطلب عليها يعني ندرتها، بالتالي، فأجور أصحابها عالية وربحهم أعلى من أرباح طلاب الجامعة.