المصدر: النهار
الكاتب: سلوى بعلبكي
الجمعة 26 كانون الاول 2025 17:11:41
تختصر الواجهات المصرفية المقفلة في مختلف المناطق اللبنانية مسار الانحدار الذي أصاب أحد أبرز ركائز الاقتصاد الوطني. فالأزمة المالية التي انفجرت قبل 6 أعوام لم تكتف بتقويض الثقة بالنظام المصرفي، بل دفعت المصارف إلى إعادة هيكلة وجودها الميداني تحت ضغط تراجع الودائع، وانكماش حجم الأعمال، وتفاقم الكلفة التشغيلية.
أمام هذا الواقع تبدو المصارف اللبنانية، وكأنها تنتقل قسراً من نموذج الانتشار الواسع والاعتماد على الرساميل المتدفقة، إلى نموذج مصغر يعتمد على تقليص التكلفة وتقديم خدمات محدودة النطاق، في ظل بيئة مالية واقتصادية فقدت معظم مقومات النمو.
انكماش حاد في الشبكات المصرفية
بيد أن ما يجري في القطاع المصرفي ليس مجرد عملية تقشف، بل تحول بنيوي عميق يغير وجه الأعمال المصرفية في لبنان. فمع تقلص الاقتصاد وتراجع الودائع وحجم الأعمال وارتفاع كلفة التشغيل، يصبح الحفاظ على شبكة فروع واسعة ترفاً غير قابل للاستدامة، وتالياً ليس مستغرباً أن تتحول الفروع التي كانت تنتشر بكثافة في المدن والبلدات إلى عبء تشغيلي لم يعد من الممكن تحمله.
فالأرقام الصادرة عن مصرف لبنان وجمعية المصارف في لبنان تعكس مدى التحول البنيوي الذي يمر به القطاع. فمنذ بداية الأزمة وحتى آذار 2025، شهدت شبكة الانتشار المصرفي تقلصاً غير مسبوق، فانخفض عدد الفروع داخل لبنان بأكثر من 40% من 1058 فرعاً في نهاية 2019 إلى 634 فرعاً في آذار 2025، فيما تراجع عدد الفروع الخارجية بنسبة 39.7% من 73 فرعاً إلى 44 فرعاً بين 2019 و2025. توازياً تراجع عدد أجهزة الصراف الآلي بنسبة 28.5% من 2003 أجهزة إلى 1432 جهازاً.
ومن البديهي أن ينعكس تراجع عدد الفروع والعمليات المصرفية على عدد الموظفين الذين انخفض عددهم إلى النصف تقريباً، أي من 24,783 موظفاً عام 2019 إلى 12,591 موظفاً في آذار 2025.
هذا التقلص القاسي في شبكة الفروع وعدد الموظفين "لم يكن خياراً طوعياً بقدر ما كان ضرورة استمرارية، بعد أن أصبحت كلفة التشغيل غير متناسبة مع حجم الأعمال والودائع"، وفق ما يقول أمين عام جمعية المصارف فادي خلف لـ"النهار". ويوضح "بعد ست سنوات من الأزمة، حجم الودائع تقلص، وحجم الاقتصاد تقلص، والتسليفات اليوم محدودة جداً بسبب القيود على الودائع الفريش التي يجب وضع 100% منها لدى المصارف المراسلة في الخارج. لذلك لا مبرر اقتصادياً لإعادة فتح الفروع كما في السابق".
ويؤكد أن "التطور التكنولوجي يلعب دوراً محورياً أيضاً "الخدمات المصرفية عبر الإنترنت، والدفع الرقمي، والبطاقات على الهاتف، كلها تقلل الحاجة إلى الفروع التقليدية مهما تحسنت الظروف".
ولا ينفي أن تقلّص عدد الفروع المصرفية في المناطق يزيد من معاناة المودعين، مؤكداً في المقابل صعوبة في انتقال الحسابات المصرفية من فرع مصرف أقفل إلى آخر مصرف آخر يمكن أن يتوافر في المنطقة عينها. ويقول "الانتقال بين المصارف ليس سهلاً لأن الودائع الخاضعة لتعاميم 158 و166 لا يمكن نقلها. ولذا قد يضطر المودع إلى متابعة فرعه حتى لو انتقل إلى منطقة بعيدة".
لبنان يتراجع عربياً
أزمة المصارف انعكست تراجعاً في موقعها في مؤشرات النفاذ إلى الخدمات المصرفية مقارنة مع الدول العربية. فقد أظهر مسح الوصول المالي لعام 2025 الصادر عن صندوق النقد الدولي، والذي يغطي بيانات العام 2024 أن عدد الفروع لكل 100 ألف بالغ، تراجعت من 26.5 فرعاً قبل الأزمة إلى 15.9 فرعاً فقط، بانخفاض يقارب 40%.. أما أجهزة الصراف الآلي لكل 100 ألف بالغ فانخفضت من 47.9 إلى 32.9 جهازاً، بنسبة تراجع تبلغ نحو 31%. في المقابل، حققت دول الخليج تقدما بارزاً على مستوى الخدمات الرقمية، فكانت الكويت الأولى عربياً بعدد أجهزة الـATM (58 جهازاً لكل 100 ألف بالغ، فيما حلت السعودية الأولى في المعاملات المصرفية الإلكترونية بـ 104,483 معاملة لكل 1000 بالغ.
أما لبنان، فحل في المرتبة الأخيرة بـ 1320 معاملة فقط، ما يعكس فجوة كبيرة بينه وبين الاقتصادات الأكثر تحولاً نحو الرقمنة. علما أن المصارف اللبنانية بدأت في التحول تدريجاً إلى تقديم خدمات مصرفية إلكترونية أقل كلفة وأسهل استخداماً، بما يفسر الارتفاع المطّرد (32.1%) في معاملات الخدمات المصرفية عبر الهاتف المحمول والإنترنت لكل ألف بالغ بين عامي 2022 و2024، ليصل إلى نحو 1320 معاملة. ويعود هذا الارتفاع إلى تراجع عدد الفروع وصعوبة الوصول إلى الخدمات التقليدية، أكثر مما يعكس استراتيجية رقمية من المصارف.