المصدر: اساس ميديا
الثلاثاء 20 تموز 2021 15:35:19
الرقم الذي أورده الرئيس السوري بشار الأسد لحجم الودائع السورية المحبوسة في البنوك اللبنانية قد لا يكون دقيقاً، لكنه يشير إلى عقدة قد تكون الأصعب أمام تصفية خسائر الأزمة اللبنانية.
لا بد من القول ابتداءً إن لبنان قابل للخروج من الأزمة بأسرع مما يتصور كثيرون، والدولة اللبنانية بالذات ستخرج منها من رابحاً أكبرَ "على الورق"، بعد أن شطبت نصف دينها حتى اليوم، وستشطب المزيد حين يبدأ كلام الجد مع الدائنين ومع صندوق النقد الدولي، ولو على ركام شعب غارق في العتمة والجوع والمرض وطوابير الذل. لنضع جانباً هنا المشكلة الاقتصادية الخانقة وقهر الناس، فذاك حديث يطول، ولنحصر الحديث بالخسائر المالية.
خلال عشرين شهراً افتقر الناس، لكنّ دين الدولة انخفض على الورق من 90 مليار دولار إلى ما لا يتجاوز 46 مليار دولار حالياً وفق سعر الصرف السائد. فالدين بالعملات الأجنبية، شاملاً الاستحقاقات والكوبونات غير المدفوعة منذ توقف الدولة عن السداد في آذار 2020، يبلغ نحو 42 مليار دولار، والدين بالليرة يزيد قليلاً على 91 ألف مليار ليرة، وهو ما يعادل 60 مليار دولار بسعر الصرف الرسمي (المنقرض)، لكنه لا يساوي أكثر من 4.1 مليار دولار وفق سعر الصرف السائد في السوق الموازية.
والأهم أن الدين العام الذي يحمله الأجانب لا يتجاوز 18 مليار دولار، شاملاً المتأخرات منذ آذار 2020، وهو رقم يقل عن حجم الناتج المحلي الإجمالي، حتى وفق أكثر التقديرات تشاؤماً أو تحفظاً. أما ما تبقى من اليوروبوندز فتحملها مصرف لبنان والبنوك اللبنانية وشركات وأفراد.
وما من شك أن أية عملية إعادة هيكلة مستقبلية للدين العام ستتضمن خصماً (هيركت) على الدين الحكومي بالدولار (اليوروبوندز) يتراوح بين 50% و80%، وستتم مراجعة الفوائد بالتأكيد وجدول السداد. ولا يبدو من مسار الأمور في الأشهر الماضية أن لدى الدائنين الأجانب الكثير من الأسلحة لفرض شروطهم، أو أقله هذا ما يوحي به انتظارهم التفاوض من دون اتخاذ خطوات قانونية للحجز على الأصول اللبنانية في الخارج. هذا يعني أن بإمكان الدولة أن تخرج بحملٍ معقول للدين العام لن يزيد على 70% من الناتج المحلي الإجمالي. وتلك نسبة معقولة لا تحلم بها معظم الدول الأوروبية!
أين المشكلة إذاً؟
المشكلة أن معظم الدين الذين شطبته الدولة أو ستشطبه هو دين داخلي، أي أن الخسائر تقع داخل "النظام" اللبناني. بمعنى أن الخسائر ستُصفى بين الدولة ومصرف لبنان، وبين مصرف لبنان والبنوك، وبين البنوك ومودعيها. وطالما أن الدولة مشلولة عن القيام بأي فعل لإعادة الهيكلة وتوزيع الخسائر، وملهيّة بجنس الوزراء، فإن التصفية المطروحة للخسائر هي تصفية الأمر الواقع (de facto)، بحيث تتفاقم الأزمة إلى أن تتلاشى قيمة الودائع الدولارية (اللولارية) إلى أن تصبح تشيكاتها عديمة القيمة، وتصبح "ليلرتها" أمراً واقعاً. وبذلك يقع الغُرم على المودعين من الحلقة الأضعف، بعد أن هرب كبار القوم من أصحاب "السوبر واسطة" بأموالهم إلى الخارج، بتغطية من السلطة التي تهرّبت من إقرار "الكابيتال كونترول" في أيام الأزمة الأولى.
يمكن للأزمة أن تنتهي سريعاً إذا ما سلَم الجميع بحلٍ كهذا؛ يحوّل مصرف لبنان شهادات إيداع البنوك الدولارية لديه إلى الليرة، وتحوّل البنوك ودائع الناس إلى الليرة، فتنتهي فجوة الموجودات الأجنبية. تُفلس بعض البنوك أو تدمج في بنوك أكبر، وترمم بنوك أخرى أوضاعها، ويعود الكل إلى "البزنس" كالمعتاد. وواقع الحال أن اقتصاد صغيراً بحجم الاقتصاد اللبناني يمكن أن يستعيد نشاطه إذا ما توفر الحد الأدنى من الخدمات الأساسية والبنية التحتية المقبولة لاستقبال المغتربين صيفاً، ولاستقبال تحويلاتهم طوال السنة.
لكن دون هذا الحل عقبة أخيرة، هي التدقيق في مكونات شريحة المودعين التي ستقع تصفية الخسائر على رأسها، لمعرفة إن كان لا يزال فيها من هم قادرون على خلط الأوراق وإسقاط حل "الأمر الواقع".
كان يبدو حتى وقت قريب أن الذين لا تزال أموالهم محبوسة هم الحلقة الأضعف الذين لم يتمكنوا من تهريب أموالهم بأي سبيل من السبل المشروعة أو الملتوية. وإذا كان صغار المودعين قادرين على إحداث الضجيج والتجمهر أمام فروع البنوك، فبالإمكان معالجة أمرهم بقليل من الأموال عبر تعميم مصرف لبنان رقم 158. وهكذا لا يبقى إلا أبناء الطبقة الوسطى الذين لا يمتلكون "السوبر واسطة"، وليس متوقعاً منهم تحطيم واجهات الفروع.
هنا يدخل العامل السوري. لا مجال للشك بأن لبنان كان الرئة المصرفية للمستوردين والمصدّرين في سوريا، ومستودع أموال الضباط والسياسيين الفاسدين. صحيح أن مجمع ودائع غير المقيمين لم تكن تتجاوز 30 مليار دولار قبل الأزمة، لكن الصحيح أيضاً أن الكثير من الأثرياء السوريين حصلوا على الجنسية اللبنانية، أو تحملها زوجاتهم، او يودعون بأسماء كيانات لبنانية لإبقائها بعيداً عن أنوف الفضوليين والعسس.
قد يكون الرقم الذي ذكره بشار الأسد دقيقاً لحجم الودائع السورية في لبنان مبالغاً به (قال إنه يتراوح بين 40 و60 مليار دولار)، لكنه يذكّر الجميع بوجود عنصر سوري لا بد من أخذه في الاعتبار عند تصفية الخسائر. بل لعله يفتتح ولايته الجديدة برسالة إلى اللبنانيين مفادها أن لا حل للأزمة اللبنانية إلا بإمضاء الدائن السوري: "تفضلوا فاوضونا". ولنا أن نتذكر كم دولةٍ فتحت على نفسها أبواب التدخلات والوصاية من الدائنين.
سيتضح البعد السياسي لكلام الأسد في مقبل الأيام، لكن في البعد المالي على الأقل، الخطر كل الخطر أن تسوّل للبعض أنفسهم البحث عن تسويات في الظلام على حساب الحلقة اللبنانية الأضعف، تماما كتلك التسويات مع أصحاب النفوذ والسلطة اللبنانيين الذين مُزّق "الكابيتال كونترول" كرمى لعيونهم.