المصدر: نداء الوطن
الكاتب: طوني عطية
الأربعاء 23 نيسان 2025 06:55:24
في منطق السياسة، ترتكز العلاقات الدولية على قاعدة المصالح المتحرّكة. غير أنّ الفاتيكان، المؤسسة الأقدم المستمرّة عبر التاريخ، هي الدولة الوحيدة في العالم التي لا تنسج صِلاتها الأممية والخارجية انطلاقاً من حساباتها النفعية. ليس لها أساطيل تجوب البحار، ولا جيوش وميليشيات ومرتزقة تقتحم الحدود. لا تبحث في الخرائط الجيوسياسية عن مناطق نفوذ وثروات طبيعية ومواقع استراتيجية. لا تُرسل جنرالاتها ليحصوا بوقاحةٍ العواصم والمدن التي سقطت تحت سيطرتها. ثورتها العالمية منسوجة من طبيعة ثروتها القيمية، أي السلام والمحبة والاحترام بين الشعوب والأديان. من هذه المفاهيم الراسخة، يُعدّ الكرسي الرسولي السند والمُغيث الحقيقي لبلد الأرز في السرّاء والضرّاء، حتى قيل إذا صحّ التعبير، إن لبنان بالنسبة إلى أسقف روما هو كرسيّ الشرق، حيث خصّه خلفاء بطرس بلفتة أبوية، لا تُميّز بين مكوّناته وطوائفه المسيحية والإسلامية.
منذ نشأة الجمهورية اللبنانية، زارها ثلاثة أحبار هم: البابا بولس السادس، في 2 كانون الثاني 1964، عندما توقّف لمدة خمسين دقيقة في مطار بيروت الدولي، أثناء رحلته إلى الهند. ثمّ البابا القديس يوحنا بولس الثاني، في 10 و11 أيار 1997 الذي كسر حاجز الخوف عند المسيحيين واللبنانيين، ومهّد لانطلاق ثورة الأرز التي وضع مداميكها البطريرك نصرالله صفير في بيان المطارنة الشهير. أمّا الحبر الثالث فكان بنديكتوس السادس عشر، حيث زار لبنان من 14 حتى 16 أيلول 2012، واختار بيروت لإعلان وثيقة الإرشاد الرسولي حول الشرق الأوسط.
ومن العلامات المميّزة التي تعكس اهتمام رأس الكنيسة الكاثوليكية بلبنان، حين دعا يوحنا بولس الثاني عام 1993 إلى عقد سينودوس، هو الأول من نوعه في تاريخ الفاتيكان. عادةً يُنظّم السينودوس (كلمة لاتينية الأصل، تعني "السير والعمل معاً")، من أجل قارة أو من أجل قضايا لاهوتية أو مسائل عالمية ساخنة تُهمّ الكنيسة والخير الإنسانيّ العام مثل العائلة والطفل والبيئة... أما أن يكون من أجل دولة محدّدة فلم يحصل سابقاً إلا مع لبنان.
أما الزيارة الرابعة، والتي كانت منتظرة من قبل "بابا الشعب" فرنسيس الأول فلم تأتِ. وتعددت ظروفها، بين سياسية وصحيّة. من جهة جائحة كورونا وانتفاضة 17 تشرين 2019 ومعركة الإسناد التي فتحها "حزب الله" من جهة أخرى. وتجدر الإشارة إلى أنّه طوال 70 عاماً من العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، لم يُذكَر أن لبنان الرسمي تواجه مع الكرسي الرسولي، إلا في عهد رئيس الجمهورية السابق ميشال عون ووزير الخارجية آنذاك جبران باسيل، حيث رفض البابا فرنسيس أوراق اعتماد الدبلوماسي جوني ابراهيم سفيراً للبنان في الفاتيكان، نظراً إلى "صِلاتِه بالمحافل الماسونية"، واللافت في هذا الإطار، أنّ الجانب اللبناني أصرّ على ابراهيم، الأمر الذي كاد يهدد العلاقات الدبلوماسية، قبل أن يتراجع لبنان ويشكّل سابقة تاريخية ونقطة سوداء في سجلّ رئاسة الجمهورية اللبنانية، إذ أنّ العرف المتّبع قبل الطائف وبعده، أن اختيار سفير لبنان لدى الفاتيكان محصور برئيس الجمهورية.
كما كان لدى البابا الثائر على الفساد والفقر والجشع، انتقادات قاسية تجاه السياسيين والمسؤولين اللبنانيين، لا سيما في ملف الشغور الرئاسي بعد انتهاء ولاية ميشال عون، نقلها وقتها أمين سرّ دولة الفاتيكان الكاردينال بيترو بارولين، علماً أن الأخير لم يأتِ إلى بيروت بناء على طلب الدولة اللبنانية ولا الكنيسة المارونية، إنما بقرارٍ اتخذه الحبر الأعظم بنفسه، انطلاقاً من حرصه وقلقه على دوره ومستقبله.
حمل البابوات لبنان معهم إلى المحافل العالمية وفي لقاءاتهم الدولية، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، اللقاء التاريخي الذي جمع البابا فرنسيس وماكرون عام 2019، في الذكرى المئوية لاستعادة العلاقات الدبلوماسية بين الفاتيكان وفرنسا عام 1919. في تلك السنة، اكتسح المرشحون الكاثوليك البرلمان الفرنسي، وشكّل نجاحهم السند الدولي الرئيسي لتحقيق قيام دولة لبنانية سيدة ومستقلة عام 1920.
فلبنان هو الحاضر الدائم في قلب البابوات واهتماماتهم، هو الزائر الأعز بقديسيه في دوائر الفاتيكان. وإذا نسته الأمم عند قارعة المصالح والتوازنات السياسية، ونكرته جميع الشعوب، فلا يسقط من عين بطرس وخليفته، مؤكّداً آية أشعيا: "هَلْ تَنْسَى ٱلْمَرْأَةُ رَضِيعَهَا فَلَا تَرْحَمَ ٱبْنَ بَطْنِهَا؟ حَتَّى هَؤُلَاءِ يَنْسَيْنَ، وَأَنَا لَا أَنْسَاكِ. هُوَذَا عَلَى كَفَّيَّ نَقَشْتُكِ. أَسْوَارُكِ أَمَامِي دَائِمًا".