التحوّل الرقمي في لبنان: حماس وزاري تنقصه الحوكمة

وسط حماس وزاريّ يغذيه طموح اللبنانيين المؤجل بالتحوّل الرقمي، ومبادرات فردية لوزراء حكومة العهد الإصلاحية، يحاول "بعض الدولة" أن يتخطى الفجوة البنيوية القانونية التي فرضها التطوّر السريع بعالم التكنولوجيا، لتأمين عبور الإدارة، ولو بالحدّ الأدنى، نحو "مكننة" علاقتها مع المواطن.

إلّا أن رحلة التطوّر هذه على ما يبدو لا تزال تسير متشتتة ومن دون تكامل. فيما "التحوّل الرقمي "ليس مجرّد عملية تقنية أو تحديث إداري، بل هو مشروع وطني سيادي يتطلّب تنسيقًا على أعلى مستوى تنفيذيّ في الدولة" وفقًا لما تقوله الدكتورة لينا عويدات الخبيرة الدولية في شؤون تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي. ولذلك، تعتبر عويدات "أن نجاح التحوّل الرقمي في لبنان يرتبط بقدرتنا على توحيد الرؤية التنفيذية، وترسيخ الشراكات المؤسسية، وضمان أمن البنى التحتية الرقمية التي تمسّ كلّ مواطن ومؤسّسة".

صحيح "أن الدستور اللبناني يمنح الإدارات العامة استقلالية وصلاحيات كاملة في مهامها" بحيث يجب أن تبقى "المسؤولية التقنية والإدارية ضمن نطاق الإدارة المعنيّة التي تمتلك الخبرة القطاعية". إلّا أن الخدمات الإلكترونية وفقًا لعويدات "تتطلّب بنية مشتركة للتدقيق والتكامل بين قواعد البيانات، وهذه البنية تنطلق أساسًا من وزارة الداخلية بوصفها مرجعية الهوّية والمعاملات الرسمية، لكنها تتأثر ببيانات واردة من عدّة وزارات. من هنا، يصبح من الضروري أن يُنظم التحوّل الرقمي على مستوى رئاسة مجلس الوزراء، بمشاركة لا تقلّ عن خمسة عشر قطاعًا أساسيًا تحتضن البنى التحتية الحرجة للدولة".

ففي أيّ إطار إذًا، يمكن وضع المبادرات التي برز بعضها في الأسبوع الماضي، سواء من خلال إطلاق البوابة الإلكترونية في وزارة العمل، أو من خلال إعلان مكننة بعض الخدمات في وزارة المالية، وماذا عن "الاستراتيجية الوطنية للتحوّل الرقمي" التي أعلن عنها في وزارة التربية قبلهما؟

إنجاز رقميّ بنكهة ورقية

في 3 تشرين الأول الجاري، اغتنم وزير العمل محمد حيدر مناسبة إطلاق بوابة الدفع الإلكتروني بالشركة مع وزارتي المالية والتنمية الإدارية ومع القطاع الخاص، للحديث عن تحوّلات رقمية بدأ المواطنون يلمسونها فعليًا في وزارته. قدّمت الوزارة في عرضها هذا "الإنجاز" مثالًا إيجابيًا. إذ بدا للمرة الأولى "أن هناك مقاربة تشاركية حقيقية بين الإدارات، تتكامل فيها الجوانب التقنية والمالية والتنفيذية" وفقًا لما أعرب عنه وزير المالية ياسين جابر. وهذا ما جعله يضع المشروع في إطار الجهود التي تبذلها وزارة التنمية الإدارية للتحوّل الرقمي الشامل، معللًا إياها بزيادة في ميزانيتها للمضيّ بمهامها في المرحلة المقبلة على الشكل اللازم.

وفقًا لما شرحه وزير العمل محمد حيدر، فإن البوابة الإلكترونية طوّرت بموجب عقد موقع بين وزارة المالية وشركة NET COMMERCE سمح بتسريع الإعداد الفني لاعتماد بيانات الدفع عبر البوابة. وقد عملت شركة IBS على تطويرها ودمجها ضمن منصّة وزارة العمل. وبالتالي من بين 67 خدمة تقدّم عبر وزارة العمل صار نصفها تقريبًا ينجز بفضل هذه البوابة إلكترونيًا، بحيث تم تنفيذ 400 عملية ناجحة حتى الآن، والحبل على الجرّار على ما يبدو، عند اكتساب المواطنين الوعي الكامل حول مهمات هذه البوابة.

لا شك أن "تقليعة" المعاملات الإلكترونية السريعة عبر وزارة العمل، كشفت عن توق اللبنانيين لانتقال الإدارة إلى عصر التكنولوجيا أسوة بسائر بلدان العالم. ولكن شيطان النموذج الذي اعتمد في هذه الوزارة بقي في التفاصيل. إذ شرح حيدر أن المعاملات غير المشمولة بخدمات المنصة الإلكترونية حاليًا هي المعاملات التي لا تتطلّب تسديد رسوم. بينما المواطن مضطرّ حتى بالنسبة لمعاملاته التي يقدّمها عبر المنصة بأن يؤمّن نسخة ورقية منها إلى الوزارة. وأوضح حيدر أنه "مطلوب منا قانونيًا أن نتأكد من قانونية المستندات المقدّمة عبر المنصة، عبر الاستحصال على نسخة أصلية منها" وهذا إجراء يحتاج إلى قانون أو مرسوم للتخلي عنه وفقًا للوزير "حتى نتخطى العقبة".

تطرح هذه الإشكالية في بلد اعتاد الصفقات كلبنان، التساؤلات حول السبب الذي جعل الوزارة تعتمد NET COMMERCE في تطوير منصتها، طالما أن "الدفع الإلكتروني" كان متاحًا أيضًا من خلال مؤسسات تحويل الأموال. أحال وزير العمل التساؤل إلى وزير المالية، الذي أكّد أن البوابة لا تلغي مهمة مؤسسات تحويل الأموال، بل الغاية منها تسهيل أمور حمل الأموال "الكاش" إلى الوزارة، وهو قد يستتبع لاحقًا بتأمين تجهيزات الـ ATM داخل الإدارة نفسها، وذلك بعد أن تنتهي الوزارة من مفاوضاتها الجارية مع المصارف لتجديد العقود. ولكن هل يسمح هذا النموذج المتعدّد الخيارات بالحديث عن عملية مكننة فعلية، يعوّل وزير التنمية الإدارية على نجاحها، كي "نتوسع بالتجربة ونكررها".

نجاح في "المالية" معزول عن مشروع الدولة الرقمية

كان لافتًا أن يقوم وزير المالية في اليوم نفسه بالإعلان عن بوابات إلكترونية عبر وزارته أيضًا باشرت بتقديم سلّة من الخدمات للتخفيف من "تماس" الموظف مع المواطن، وتسريع إنجاز المعاملات.

وفقًا للعرض الذي قدّمه جابر، تشكّل التجربة التي طوّرتها وزارته استثناءً نسبيًا في مشهد متعثر. إذ تمكنت من إحراز تقدّم ملحوظ في مكننة عدد من معاملاتها وخدماتها ولا سيّما ما يتعلّق منها بشكاوى المواطنين وتسديد الضرائب إلكترونيًا بالإضافة إلى خدمات أخرى في الدوائر التابعة للمالية ولا سيّما العقارية.

قد تكون وتيرة المكننة في وزارة المالية أسرع من غيرها، لما تتمتع به من مرونة في التعاطي مع النظام المالي اللبناني، وارتباط مباشر بالبنك المركزي وبنيته التكنولوجية "الممتازة". وبحسب رأي خبير، يمكن للدولة أن تستفيد من هذه البنية، من دون الحاجة إلى تجهيز مركز آخر لجمع الداتا على المستوى المالي. وهذه المرونة من شأنها أن توفر بيئة تقنية وتشغيلية أكثر ملاءمة للانتقال إلى الرقمنة.

لكن، رغم هذه الامتيازات لوزارة المالية، تبقى تجربتها استثناءً بعيدًا من "المكننة" الشاملة التي يطمح إليها اللبنانيون. وهذا ما يجعل كلّ الإدارة اللبنانية بعيدة أيضًا من مفهوم تطبيق "التحوّل الرقمي". إذ إن المبادرات المطروحة حتى الآن لا تقترن بدراسات دقيقة ومعمّقة لإنشاء بنية رقمية متكاملة ترعاها الدولة مباشرة. وهذا ما يهدّد بتحوّل الحماس الوزاري من عنصر إيجابي إلى عامل تكرار وتضارب مكلف ماديًا وغير مفيد عمليًا.

فهل نحن أمام مشهد يُراد له أن يوهم بالتقدّم أكثر ممّا يعكسه؟

في وزارة التربية: استراتيجية فوق الاستراتيجية

ما أقدمت عليه وزارة التربية تحديدًا قد يشكّل نموذجًا عن هذا التخبّط. ففي 25 أيلول الماضي، أطلقت الوزارة "وعدًا وطنيًا ورؤية جماعية لإعادة بناء التعليم بما يليق بأبنائنا، ويواكب التحوّلات العميقة التي يشهدها العالم". جاءت هذه المبادرة بالتعاون مع "اليونسكو" التي ساهمت في الترويج لها أيضًا، وبحضور وزير الدولة للتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، وأطلقت عليها تسمية "الاستراتيجية الوطنية للتحوّل الرقمي". ولكن لدى لبنان رسميًا وعلميًا "استراتيجية وطنية" أقرّت بمجلس الوزراء منذ شهر نيسان من العام 2022، وهي تشمل كلّ الوزارات ومن بينها وزارة التربية. بينما وزارة التربية غير قادرة على التوصّل إلى استراتيجية للتحوّل الرقمي، من دون التعاون مع أكثر من وزارة ومن بينها وزارة الاتصالات المشرفة على البنية التحتية للاتصالات ووزارة الأشغال التي تخضع لها مبانيها.

نفتقد للإرادة السياسية... لا القوانين والطاقات

استغرق الوصول إلى "الاستراتيجية الوطنية" الرسمية أكثر من عشرين عامًا من التداول في مفهوم التحوّل الرقمي والحكومة والحوكمة الرشيدة. وواكبتها لجنة وطنية للأمن السيبراني برئاسة اللواء محمد المصطفى، نوّهت عويدات "بتنسيقها مع أكثر من عشرين إدارة عامة وخبراء متخصصين من القطاع العام لتجهيز الحكومة بكل ما يلزم من أطر ومعايير لحماية الفضاء السيبراني اللبناني ولمواكبة سلامة التحوّل الرقمي على أسس متكاملة ومستدامة، شملت قانون الوكالة الوطنية للأمن السيبراني على أعلى مستوى تنفيذي" وإذا كان هذا القانون لم يقرّ بعد، فقد رأت عويدات حاجة لذلك "قبل فوات الأوان بسبب المخاطر السيبرانية الخطرة التي رصدتها اللجنة في تقريرها كعضو فعلي ومرجعي في منظمة الدول السلامية لمخاطر الحاسوب الطارئة"...

أبعد من مكننة قطاعية لبعض الخدمات إذًا، يتطلّب التحوّل الرقمي إحاطة قانونية وإدارية وتنفيذية وحتى أمنية بكلّ التفاصيل، بينما لبنان لا تنقصه لا القوانين ولا الكفاءات، بل حازت الجهود التي بذلت هنا لوضع "إرشادات الذكاء الاصطناعي والحوكمة" تنويهًا في دول العالم. وما ينقصه فعليًا، هو الإرادة السياسية التي تحرص على تنفيذ القوانين ومواكبة الخطوات العملانية المحدّدة من ضمن استراتيجيته الوطنية، مع تزويدها بكافة الأدوات التنفيذية التي تتيح للدولة وإداراتها بأن تواكب جيلًا رقميًا سبق حكّامه في التفكير والتخطيط والاستثمار، بدلًا من أن تبقى حبيسة ممارسات بائدة لا تتماشى مع فكرة المكننة والتكنولوجيا.

الطابع الورقيّ يفضح التناقض بين الوعود والأفعال

في المؤتمر الصحافي الذي أطلق منصة الدفع الإلكتروني بوزارة العمل، حضر الطابع الورقي في معرض إشارة وزير المالية للمحاولات الحثيثة التي تجريها الدولة من أجل تسهيل معاملات الناس. وعليه كرّر جابر على المسامع ما شهدته السوق من تعويم بالطابع الورقي، "في محاولة لتخفيف الضغط على المواطنين ومحاربة السوق السوداء".

إلّا أن الإجراء يكشف عن التناقض العميق بين الخطاب الرسمي الذي يعد بتحوّل مبشّر نحو المكننة والتطبيق العملي الذي يقدّم كلّ ما هو ورقي. فالطابع الإلكتروني أقرّ قانونيًا كحلّ أدرج في كل موازنة قدّمتها الحكومات المتعاقبة منذ العام 2022. ولكن هذا الحلّ يتمّ تجاهله حتى الآن، لا بل جرى استبعاده بعد طرح وزارة المالية مشروع عقد لم يقترب من المفهوم الإلكتروني، ورفضه ديوان المحاسبة. هذا في وقت ربط ديوان المحاسبة في قرار أخير صدر عنه بنهاية العام 2024 من ضمن رقابته المسبقة على التلزيمات، موافقته "الأخيرة" على طباعة كميات إضافية من الطابع الورقي، بتجهيز البنية التحتية القابلة للانتقال إلى الطابع الإلكتروني.

مصير الطابع الإلكتروني

سألت "نداء الوطن" وزير المالية عن مصير الطابع الإلكتروني، فوضع الكرة في ملعب "وزارة التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي". بينما يشكّل تحميل هذه الوزارة الملف من دون أن تكون لديها بنية إدارية واضحة وميزانية مدروسة، خطوة شكلية لا يُنتظر منها أيّ نتيجة ملموسة. هذا في وقت تعتبر عويدات أن "التحوّل الرقمي لا ينجح من خلال إنشاء وزارات جديدة أو إعادة هيكليات متكرّرة قد تؤدي إلى تضارب في المصالح وإعاقة التنفيذ، كما يُطرح أحيانًا من قبل بعض الجهات. فالتوجّه العالمي اليوم هو نحو إنشاء وكالات وطنية مرنة وشراكات استراتيجية مع القطاع الخاص، قادرة على تنفيذ المشاريع الرقمية بكفاءة وسرعة وشفافية، مع الحفاظ على الرقابة والسيادة الوطنية".

طمأن وزير المالية في المقابل بأن القرار الذي أصدره ديوان المحاسبة بالسماح للوزارة بالطابع الورقي لمرة واحدة قبل الانتقال إلى المكننة، قابل للخرق، وهو شخصيًا كما قال تحدث إلى رئيس الديوان في هذا الأمر، مضيفًا أنه بالنتيجة "القرار للحكومة التي لن تقبل بخلق أي بلبلة جديدة في السوق". وهذا ما يطرح السؤال مجدّدًا: هل يمكن للحوكمة الرقمية أن تولد من رحم إدارة ترفض حتى الآن التخلّي عن طابعها الورقي؟"