المصدر: نداء الوطن
الكاتب: زيزي اسطفان
الجمعة 4 نيسان 2025 07:47:17
ينزل أبو عامر من منزله الواقع في مبنى بيروتي قديم ويتوجّه سيراً على الأقدام نحو حديقة الصنائع في موعد يوميّ صار جزءاً من حياته. يلتقي مع "الشباب" في ركنهم المعتاد، يحكون في أوضاع البلد ويتنافسون على "دق" طاولة. جمعة رجال يومية تقابلها جمعة جدّات يصطحبن أحفادهنّ لتمضية بعض الوقت في الحديقة في انتظار عودة أمّهاتهم من العمل. هكذا هي الصورة صباحاً في حديقة الصنائع ومثلها في معظم حدائق بيروت. لكن الصورة على جمالها لا تزال دون المطلوب وكأن ثمة جفاء بين اللبنانيين وحدائقهم العامة.
ثقافة تمضية الوقت في حديقة عامة، رغم مجانيتها في هذا الزمن الصعب، شبه غائبة عن اللبنانيين الذين باتوا يفضلون ارتياد المقاهي والمطاعم. لكن رغم الجفاء تبقى الحدائق ملاذاً إنسانياً مريحاً وسط بحر الهموم الذي يخنق أنفاس الناس وتتنوّع فيها الأنشطة كما الروّاد. في الصباح الباكر، تتحوّل مساراً رياضياً يقصده محبّو المشي أو العدو: شابات وشبّان، موظفون وطلّاب، رجال أعمال وأطباء يمارسون رياضتهم في بيئة خضراء نقية قبل التوجه إلى أعمالهم. بعد الظهر، يتغيّر روّاد الحديقة مرة جديدة، مراهقون ومراهقات يجتمعون لتأجيل موعد العودة إلى البيت، عشاق فقراء يسترقون لحظات حميمة، أمهات أو آباء يرافقون صغارهم في فسحة عائلية باتت نادرة وشبان عاطلون عن العمل يتسكّعون لتدخين الأراكيل.
في بيروت سبع حدائق كبيرة وبضع حدائق محلية صغيرة تتبع للكنائس أو الجوامع. أكبرها حرج بيروت الذي يمتدّ على مساحة 300,000 متر، تليه حديقة الصنائع التي باتت تعرف باسم حديقة "الرئيس رينيه معوض" كبرى حدائق بيروت وأقدمها تمتدّ على مساحة 22000 متر مربع وتحمل الطابع الفرنسي. تمّ إنشاؤها منذ بدايات القرن العشرين وكانت تتبع للسراي (وزارة الداخلية اليوم) والمكتبة العامة. إنشاء الشارع الرئيسي العام فصل الحديقة عن السراي، لكنه لم يفصلها عن حياة البيارتة ووجدانهم وذاكرتهم وحياة أبناء الضواحي القريبة.
رئة هادئة وسط زحمة بيروت "شرحة" ظليلة منبسطة سهلة. في الأشرفية، تشكّل حديقة السيوفي ثانية كبرى حدائق بيروت على مسافة 20,000 متر، لكنها لا تزال مقفلة رغم محاولات عدة لإعادة فتحها كانت تصطدم بالظروف في كلّ مرة لكن الأعمال فيها تكاد تنتهي ويتوقع إعادة فتحها قريباً.
بعدها، تأتي مجموعة حدائق متقاربة في المساحة منها حديقة حوض الولاية التي تعرف باسم كرم العريس، حديقة المفتي حسن خالد في تلّة الخياط قرب تلفزيون لبنان والتي ستتمّ إعادة تأهيلها، حديقة اليسوعية في حي الرميل في الأشرفية، حديقة مار نقولا تجاه الكنيسة التي تحمل اسمها في الأشرفية، حديقة الكرنتينا، وحديقة وليد عيدو في البسطا. كلّ هذه الحدائق تحت إشراف بلدية بيروت كما تشرف البلديات الأخرى على الحدائق العامة فيها مثل جبيل وسن الفيل والجديدة والزوق وغيرها.
البيروقراطية القاتلة
هل هي نعمة أم نقمة أن تشرف البلديات على الحدائق؟ المهندسة منى عماش رئيسة دائرة الحدائق في بلدية بيروت تقول "نعمل جهدنا في البلدية للحفاظ على الحدائق العامة لكنّ الروتين الإداري يكبح جهودنا وكذلك التزامات المتعهدين. نضع دفتر شروط للصيانة ونلزمها لمتعهّد.
نتكل على السلفات وعروض الأسعار لنتعاقد مع متعهدي الصيانة، نراقب عملهم ونتابعهم ولكن في حال عدم توافر المبالغ المطلوبة للدفع ينتفي كل التزام. وبين التزام وآخر فجوة زمنية تتجاوز ستة أو سبعة أشهر، فكل شهر صيانة يقابله شهران من الإجراءات الروتينية والتواقيع والتنقل بين أشخاص لا يفقهون شيئاً بالزراعة، تكون فيها الحدائق بأشجارها ونباتاتها الحية متروكة مهملة تذوي وتموت. لا يد عاملة في البلدية لتؤدي أعمال الصيانة وتحلّ محل المتعهدين ولا حتى نواطير" .
ليست هذه المعضلات الوحيدة التي تواجه الحدائق العامة، فإن كانت البلدية مقصّرة فالزوّار أكثر تقصيراً وعدائية في حق الحدائق التي تحتضنهم. تكفي مراقبة حال الحدائق لمعرفة ما تواجهه من اعتداءات. حمامات مهشمة، أبواب مكسّرة، ألعاب محطمة، مقاعد مخلّعة، نظافة مغيّبة. هكذا يستبيح الروّاد أملاك الحديقة العامة وكأنها مال سائب. لا توعية، لا احترام من قبل بعض فئات الزوّار.
وإذا كانت بعض الحدائق حكراً على أبناء الحي بشيبه وشبابه وأطفاله مثل حديقة اليسوعية، فإن الحدائق الكبرى باتت مرتعاً للسوريين يقصدونها أكثر بكثير من الرواد اللبنانيين وملاذاً مجانيا آمناً لهم.
حتى أنها "تفوّل" في بعض الأيام مثل عطل نهاية الأسبوع وتدخلها أعداد هائلة تتخطى قدرتها الاستيعابية. ويجاهد العمال المعنيون لجمع النفايات ومخلفات الزوار لكن الأعداد تتخطى قدرتهم وهو ما يضطر البلدية إلى إغلاقها لصيانتها. والأمر ذاته ينطبق على حرج بيروت الذي يغصّ بالروّاد في أوقات معينة بشكل يتخطى قدرة المسؤولين على القيام بأعمال التنظيفات والصيانة.
ويشهد الحرج نتيجة غياب الحراسة ليلاً أو ضآلتها وغياب الإضاءة بعض الأعمال المنافية للأخلاق التي لا يمكن إنكارها، تسعى البلدية للحدّ من انتشارها عبر إغلاق قسم منه نظراً لعدم وجود عدد كافٍ من الحرس. لكن رغم العجقة التي يشهدها أحياناً، فإن حرج بيروت "مغبون".
كثر لا يعرفونه ولا يتخايلون مدى جمال هذه الواحة الخضراء التي يرونها من بعيد وتعدّ بحقّ من أجمل معالم بيروت. بين أشجار الصنوبر الكثيفة والمساحات الخضراء النضرة والطرقات الترابية الظليلة يسكن الحرج صفاء كأنه من خارج هذا العالم. حتى ضحكات الصغار وثرثرات العائلات في جلساتهم تحت الأشجار وصرخات لاعبي الكرة كلّها تبدّد عبر المساحات الشاسعة تاركة الحرج مساحة ساحرة آسرة تمنح كل زائر شعوراً عميقاً بالسلام والراحة الأمر الذي خبرناه عن قرب أثناء زيارة الحرج.
نشاطات بالجملة وغياب للوزارات
وسط مدينة تغلي دوماً بالصعاب تقف على حافة الانهيار النفسي ونادراً ما تعرف الهناء، تتحوّل حدائق بيروت إلى أكثر من مساحات خضراء تحتضن الطبقات الشعبية الفقيرة كما الطبقات المثقفة. نشاطات، مهرجانات، معارض حرفية، عشاءات، كرمس، أعياد ميلاد وحتى حفلات زفاف وجلسات تصوير تقام كلّها في الحدائق.
بعضها لقاء بدل مادي يدفع في مالية البلدية وبعضها تقوم به جمعيات أهلية تعمل بدورها على الاهتمام بالحدائق وصيانتها وجمع التبرعات والهبات لتأمين التمويل اللازم لتحسينها وزيادة بعض الأنشطة إليها. في حرج بيروت مثلاً، تعمل إحدى الجمعيات على إنشاء صالة رياضية في الهواء الطلق، أو مسار للدراجات الهوائية وفي حديقة الصنائع اهتمت إحدى الشركات بترميم الحديقة وإعطائها شكلها الحديث، كما اهتمت بصيانتها لمدة عشر سنوات وقد جدّدت عقد الصيانة مع البلدية لمدة عشر سنوات جديدة.
هذا التعاون بين القطاع العام والأهلي جعل وضع الحدائق جيداً بالإجمال وهو ما يمكن لمسه عند زيارة أي حديقة، لكنه لا يزال يحتاج إلى الكثير من الجهود للحفاظ على نضرة الحدائق وتأمين الصيانة الضرورية وعدم قتلها بالبيروقراطية وكذلك تأمين مساحات خضراء جديدة وسط العاصمة. فحديقة الرملة البيضاء مثلاً وفق ما عرفنا ملفاتها جاهزة لكنها بحاجة إلى تمويل لتبصر النور وبلدية بيروت لا تملك الأموال للأعمال الأساسية فكيف لإنشاء حدائق جديدة.
والأمر ذاته ينسحب على البلديات الكبرى فلماذا لا تحوّل هذه البلديات المساحات المهملة إلى حدائق عامة بالتعاون مع القطاع الأهلي والجمعيات الإنسانية؟
أسئلة كثيرة تطرح أيضاً عن دور الوزارات المختلفة: لمَ تقف وزارة الزراعة بعيدة من مجال يخصها فلا تقدّم خبرات مهندسيها الزراعيين والشتول وغرسات الأشجار لتحسين وضع الحدائق؟
وكذلك يطرح سؤال حول دور وزارتي الثقافة والتربية، لماذا هما غائبتان عن نشر ثقافة الحدائق بين الجيل الجديد وإقامة النشاطات الثقافية في الحدائق أو جعلها معارض دائمة لأعمال فنية وتاريخية يذخر بها لبنان على غرار لوحة الفسيفساء القديمة في حديقة اليسوعية؟ ولماذا لا تكرّر وزارة الاتصالات تجربتها في تزويد الحدائق بإنترنت مجاني يساهم في زيادة عدد الروّاد وجعلها ملتقى لطلاب المدارس والجامعات؟