الحروب النقدية: العملة لم تعد مرآة للقوة بل أداة ضغط وتحوّط

كتبت فرح مراد في النهار

لم تعد العملات تعكس أساسيات الاقتصاد أو استقلالية السياسة النقدية فحسب، بل باتت تُوظف كأدوات نفوذ وتحكّم في زمن تسوده التقلبات، ويضيق فيه هامش الثقة بالأنظمة النقدية التقليدية.

نحن في لحظة تتجاوز فيها العملة دورها التقليدي كوسيط تبادل، لتصبح تعبيراً عن موقع الدولة في منظومة النفوذ العالمي. العملة الآن رسالة، أكثر مما هي سعر صرف.

الدولار: الهيمنة التي باتت تثقل نفسها
لا يزال الدولار الأميركي العملة الأقوى في العالم. لكن هذه القوة لم تعد امتيازاً مطلقاً، بل باتت مسؤولية مُكلفة ومُقيدة.

في الداخل، يُمارس الفيديرالي ضغطاً انكماشياً لاحتواء التضخم، وفي الخارج، تُمارس هذه السياسة نفسها كسلاح غير مباشر يخنق اقتصادات ناشئة ويُغري الأموال بالعودة إلى أميركا بحثاً عن عائد آمن.

ومع ازدياد الحديث عن فك الارتباط، وتسارع التسويات التجارية خارج النظام التقليدي، يجد الدولار نفسه مضطراً الى الحفاظ على قوته، رغم أن السياسة الاقتصادية نفسها لم تعد قادرة على تحمّل تبعات هذه الهيمنة.

بعبارة أوضح، واشنطن بحاجة إلى دولار قوي بما يكفي ليُخيف... وضعيف بما يكفي ليُنعش.

معادلة مستحيلة، لكنها هي واقع السوق الآن.


اليوان ليس قوياً... لكنه ذكي
الصين تدرك أن معركة النفوذ النقدي لا تُكسب بالعناوين، بل بالبنية. من العقود المقومة باليوان، إلى الشبكات التجارية غير المرتبطة بالدولار، وصولًا إلى التجارب الرقمية – كلها إشارات على عملة تسعى لالى أن تكون موجودة في كل مكان، لا أن تُقاس في مقابل الدولار فقط.

من خلال صفقات الطاقة، وتجارب العملات الرقمية العابرة للحدود، وتسويات تجارية خارج نظام SWIFT، تبني الصين ممرات نقدية، لا مجرد احتياطيات من النقد الأجنبي.

اليورو والإسترليني: ما بين التقييد الهيكلي والارتجال السياسي
في خضم الحرب النقدية العالمية، يبدو أن اليورو والإسترليني لا يلعبان دور المهاجم ولا المدافع. اليورو محكوم بتوافق هشّ، والإسترليني مقيد بواقع سياسي لا يمنحه حرية المناورة. هما أقرب إلى مناورَين ضمن ساحة المعركة، لا صانعيها.

لا يُستخدم أيٌّ منهما لتصدير النفوذ أو فرض الإيقاع، بل يُستخدم أداة توازن داخلي أو استجابة ظرفية. وبذلك، يقف اليورو والإسترليني في موقع المراقب لا المبادر، والمستجيب لا المتحكّم.


الين والفرنك: الملاذ في زمن نادر
الين والفرنك لم يعدا يحملان ن الهالة القديمة نفسها، لكنهما لا يزالان وجهتين مقصودتين عند اختلال الموازين. ليس لأن الثقة بهما مطلقة، بل لأن البدائل أقل وضوحاً.

الين فقد بريقه بفعل سياسات اليابان المتراخية. والفرنك يخضع لإدارة صارمة من البنك المركزي السويسري. لكن كلاهما لا يزال يُستدعى عند الضرورة – كخيار منطقي في غياب بدائل غير مصطنعة.

 

الخليج: سياسة التوازن الصامت
دول الخليج لم تفك ارتباطها بالدولار – لكنها تتقن فن التحوّط. من توسيع العقود باليوان، إلى الاستثمار في مساحات بعيدة عن النفوذ الأميركي المباشر، تنسج المنظومة الخليجية سياستها النقدية بأدوات غير معلنة، لكن دقيقة.

هي لا تُشهر العملة سلاحاً، لكنها تعرف تماماً أين تضع وزنها، وكيف تُبقي قدرتها على المناورة عالية.

المستقبل لا يُبنى فقط على من يملك القوة الآن، بل على من يطوّر أدواته بهدوء. من يُعيد تشكيل شبكته النقدية، ويختبر بدائل حقيقية، ويوازن بين الثبات والمرونة.

الأسواق قد تفاجئنا، لكن السياق نادراً ما يكذب. وما يستحق المتابعة حقاً... ليس السعر، بل اتجاه البنية.