"الحزب" ينتحر في مواجهة لبنان الجديد

ما ذهب الجنوبيون إلى الجنوب لإثبات الحرص على العودة إلى الديار. بل كان المقصود من دفعهم إلى هجومٍ مدنيّ للتحرير إحراج السلطات في بيروت لكي تخضع لمطالب الثنائي الشيعي. وإذا ضممنا إلى مغامرة الجنوب غزوة “الموتورسيكلات” التي هاجمت برج حمود والجميزة في بيروت، ومناطق أخرى، يتبيّن أنّ هناك صعوبات جمّة ما تزال تحول دون استقبال الجديد.

أحداث يوم الأحد في لبنان الجنوبي شديدة الخطورة، وهي تضاهي في خطورتها حرب الإسناد التي شنّها “الحزب” على إسرائيل وأدّت إلى ما أدَّت إليه.

الصهاينة المتوحّشون قالوا إنّهم لن ينسحبوا من بعض المواضع في الجنوب بعد انقضاء مهلة الشهرين. أخبروا بذلك أوّلاً أميركا ترامب ذات العقل الراجح والإنصاف الهائل(!). ثمّ أخبروا اللجنة الخماسية التي تراقب وقف النار برئاسة جنرال أميركي. وأعلنوا على الملأ نهي الجيش واليونيفيل سكّان تلك القرى عن الاقتراب منها أو دخولها. وهكذا انشغلت الأُمم المتحدة وفرنسا ورئاسة الجمهورية خلال الأسبوع كلّه في الطلب من إسرائيل الوفاء بوقف النار والانسحاب في المهلة المحدّدة وذهبت الشكوى اللبنانية إلى مجلس الأمن. وعلى الرغم من الأحداث الجارية في غزة، ظلّت عيون العالم على لبنان ومصائر الهدنة في الجنوب.

ما بقي الجيش الإسرائيلي في بعض القرى التي احتلّها بالجنوب بسبب تقصير الجيش اللبناني واليونيفيل في إزالة آثار “الحزب” من جنوب الليطاني، فقد أعلن الطرفان عن كشف وتفتيش وتجريد وردم خمسمئة موقع خلال شهرين قصيرين. ولو كانت النوايا حسنة والأهداف واضحة ومحدّدة، لشكا الإسرائيليون إلى اللجنة الخماسية ما يعتبرونه تقصيراً أو مخامرةً، ولأعلنوا للجهات الدولية أنّهم لا يثقون بقدرات الجيش واليونيفيل أو أمانتهم. نعم، ما حصل شيءٌ من ذلك. ولذلك فقد هدف الصهاينة إلى أمرين: إحراج السلطات اللبنانية الجديدة وإذلالها، كما فعلوا مع السلطات الجديدة في سورية لضرب الشرعية البازغة في البلدين، والأمر الثاني توريط “الحزب” بالردّ. فقد سمع الصهاينة مثل اللبنانيين عنتريّات مسؤولي الحزب المسلُّح، وأنّهم انتصروا في الحرب ومستعدّون للحرب المقبلة! وربّما راقبوا لديهم بعض القدرات العسكرية الباقية التي لم يتنبّهوا لها من قبل، وأرادوا تدميرها بدفع “الحزب” للتحرّك من جديد بحجّة سقوط وقف إطلاق النار بالمخالفات الصهيونية.

استضعاف وابتزاز

أمّا “الحزب” وربّما الرئيس بري فكانوا يفكّرون بطريقةٍ مختلفة. فقد دأبوا منذ أسبوعين وأكثر على التهوين من شأن القرارات الدولية وعدم احترام إسرائيل لها. ومضوا بعيداً في اعتبار هدنة جنوب الليطاني مؤقّتة، إضافةً إلى ضرورة بقاء سلاح “الحزب” للعودة إلى تحرير الأرض اللبنانية الباقية تحت الاحتلال! بيد أنّ الأهمّ بالنسبة لهم كانت المماحكات التي خاضوها ويخوضونها مع رئيس الحكومة المكلَّف بشأن وزارة المالية وبشأن الثلث المعطّل وبشأن الوزراء والوزارات، وبشأن البيان الوزاري. قالوا إنّ مطالبهم ليست امتيازات حصلوا عليها في زمن الغَلَبة، بل هي ضرورات ميثاقية. ولأنّهم كانوا منزعجين من مناعة رئيس الجمهورية وسمعته الدولية، فقد حاولوا التأثير عليه لإحداث خلاف بينه وبين الرئيس المكلَّف، وعندما لم ينجح هذا التكتيك والاتّهام بالاستضعاف والعزل، وبخاصّةٍ مع توقّع التعيينات الكبيرة والكثيرة، بدأوا بالهجوم على الرئيس للابتزاز كما حصل مع رئيس الحكومة. وركّزوا على ضعف الرئيس مثل ضعف نوّاف سلام، وأنّ الأميركيين والإسرائيليين لا يأبهون لهما وسيستمرّون في إذلالهم باعتبار أنّهم هم الذين أتوا بهم. ولا ينبغي أن ننسى أنّ النائب جميل السيّد الذي روَّعه سقوط بشار الأسد، عيَّر “الحزب” بأنّه استسلم وانسحب من المعركة على الرغم ممّا قيل عن أنّ قواه العسكرية هي أعظم بعشر مرّاتٍ من قوى حماس، في حين نجحت حماس في إجراء اتفاقية ندّية مع إسرائيل بينما لم يستطع “الحزب” ذلك وانسحب من الجبهة مدحوراً.

إنّما كما سبق القول كلّ اعتدادات القوّة لذرّ الرماد في العيون. فالمطلوب الدائم لديهم الحفاظ على الامتيازات في الحكومة والدولة على الرغم من الهزيمة في الحرب.

لذلك دفعوا منتهزين فرصة التكأكؤ والتمرّد الإسرائيليَّين مجموعات من أهل القرى المهجَّرين للعودة إلى قراهم بالقوّة، مع علمهم، بل يقينهم، أنّ الجيش الإسرائيلي سيمنعهم بالقوّة العارية أيضاً. العار على إسرائيل التي تقتل قرويّين يريدون العودة إلى قراهم. هم يحاولون العودة على الرغم من تحذير إسرائيل وتحذير الجيش اللبناني واليونيفيل، وترجّي الجهات الدولية والجيش لهم أن يعتصموا بالصبر. زعماء “الحزب”، وربّما نبيه برّي، كانوا بهذا التحدّي يريدون أن يحصل هذا الاندفاع، وأن يتغمَّس بالدم، ليس للتأثير على إسرائيل التي قتلت عشرات الألوف بدون حرب. بل كان ذلك وما يزال من أجل ابتزاز رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلَّف حتى يخضعا لهذه العصبويّة التي لم تكتفِ بالتسبّب في سفك دماء المدنيين، بل وبعد الانتكاسات المتكرّرة في السياسة والأخلاق، راحوا يجتاحون الأحياء المسيحية في بيروت من الجمّيزة إلى برج حمّود، وهي اللعبة التي مارسوها مراراً من قبل! هم يقولون بأفعالهم المزرية: إن لم يكفِكم انتحار قرويّينا في الجنوب، فانظروا إلى شبّاننا الأشاوس على “موتورسيكلاتهم” الرهيبة وهم يجتاحون شوارعكم ويدمّرونها! عام 2011 أسقطوا حكومة سعد الحريري المنتخبة وجاؤوا بحكومة ميقاتي ذات اللون الواحد بالقمصان السود. واليوم يحاصرون رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة بالدماء و”الموتورسيكلات”.

محنة وطنيّة

لو كان المقصود إظهار حرص أهل الجنوب على العودة لقراهم، لاقتصر الأمر على الحشد والتجمهر على مبعدةٍ من مواقع الجيش الصهيوني وبحراسة الجيش اللبناني بحيث لا تُعطى الذريعة للعدوّ كما يحصل دائماً. قال الإسرائيليون في غزة إنّ معبر نتساريم لن يكون مفتوحاً للانتقال من جنوب القطاع إلى شماله، فتوقّف الفلسطينيون عن الاندفاع لكي لا يسفك الإسرائيليون دماءً جديدةً تُضاف إلى دماء الخمسين أو الستّين ألفاً!

لا، ما أراد المدفوعون الاستماتة في العودة للديار، بل أراد الدافعون ابتزاز المسؤولين الذين ما لبّوا الطلبات غير الدستورية للثنائي الشيعي. وهذا هو الفرق في العقل والتعقّل والمواطنية. أفلا يستطيع الوطنيون تجنيد خمسمئة “موتورسيكل” لحماية شوارعهم؟! بالطبع يستطيعون لكنّهم لم ولن يفعلوا لأنّ الأخلاق الميليشياوية ليست من شيمهم ولا من سلوكهم في شوارعهم ولا في شوارع الآخرين! وإلى حملات “الموتورسيكلات” لنتذكّر هتافات: شيعة شيعة، في وجه الحشود في ساحة الشهداء عام 2019.

نحن في محنة بالفعل. ما عاد النظام السياسي قادراً على الاستمرار بعد سنوات التخريب والفساد. وقد حسب كثيرون منّا أنّ دروس الحرب الأخيرة ستحول دون العودة إلى التشبّث بالقديم المزغول. لكنّ أحداث يوم الأحد في 26/1/2025 في الجنوب وفي بيروت وفي نواحٍ أخرى تبعث على الأسى واليأس. ما أرخص الدم، وما أسهل الفوضى، ومعهما أو بهما لا نستطيع استقبال الجديد، ولا يمكن إقامة دولةٍ في هذا الوطن المعذَّب، يا جماعة، أليس فيكم رجلٌ رشيد؟!