المصدر: نداء الوطن
السبت 15 تشرين الثاني 2025 07:04:59
كتبت عضو المكتب السياسي في حزب الكتائب جويل بوعبود:
في شرق أوسط غارق في الصراعات والمحاور والحروب بالوكالة، لم يعد لبنان قادراً على الاستمرار في وهم التوازن القائم على منطق المواجهة الدائمة. فمع احتدام النزاعات في المنطقة، ولا سيما الحرب في غزة، وتورط لبنان في أتون الصراع الإقليمي نتيجة انخراط حزب الله فيه، بات واضحاً أن سياسة “القوة الرادعة” التي يُروَّج لها لا تحمي البلاد، بل تزيدها هشاشة وتعمّق عزلتها.
اليوم، آن الأوان لإعادة تعريف موقع لبنان في الإقليم من خلال رؤية مختلفة: رؤية دولة محايدة، سيدة على قرارها ومسارها. فالحياد ليس ترفاً سياسياً ولا انسحاباً من محيطنا، بل هو خيار بقاء واستراتيجية استقرار، تعيد للدولة معناها ودورها في حماية مواطنيها وصون مؤسساتها.
كثيراً ما يُساء فهم مفهوم الحياد، فيُختزل باللامبالاة أو التخلي عن القضايا العادلة. غير أن الحياد الحقيقي هو قدرة الدولة على النأي بنفسها عن الصراعات المسلحة، ومنع أراضيها من أن تكون ساحة لصراعات الآخرين، وبناء علاقاتها الخارجية على أساس القانون الدولي لا الولاءات الطائفية أو الأيديولوجية.
لكن لا يمكن لأي دولة أن تكون محايدة من دون أن تكون مكتملة الأركان: دولة عدالة مستقلة، إدارة كفوءة، جيش موحد، ومؤسسات قوية تكافح الفساد وتحمي سيادتها. فالحياد لا يقوم على الضعف، بل على قوة الدولة وثقة شعبها بها. لذلك، لا بد من ترميم المؤسسات أولاً كي يصبح الحياد سياسة قابلة للتطبيق لا مجرد شعار.
في هذا الإطار، يعمل حزب الكتائب منذ سنوات لترسيخ مفهوم الحياد كخيار وطني. فمن خلال لقاءاته مع القادة العرب والمؤسسات الدولية، ولا سيما الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، يطرح الحزب رؤية واضحة: لبنان لا يريد أن يكون تابعاً لأي محور، بل يريد أن ينتمي إلى نفسه.
هذا الالتزام ليس جديداً، بل يعود إلى عقود. فمنذ عام 1959، يدافع الحزب عن مبدأ الحياد، وقدم مقترحات عدة — أبرزها عام 2013 — لإدراج هذا المبدأ في الدستور اللبناني. ويواصل الحزب اليوم عمله السياسي والبرلماني لتوحيد اللبنانيين حول هذا الخيار.
وقد عبّر رئيس الحزب النائب سامي الجميّل عن هذه الرؤية مراراً، مؤكداً أن «الشعب اللبناني يريد الاستقرار والازدهار والعدالة، لا الانخراط في حروب لا تعنيه»، ومضيفاً في حديث إلى قناة TV5 Monde: «لقد حان الوقت لولادة فكر جديد في لبنان، من خلال حركة وطنية واسعة تحمل حلم لبنان المحايد، المنفتح، والحديث».
الحياد، كما تراه الكتائب، يسير جنباً إلى جنب مع إرساء دولة القانون. فالعدالة، والشفافية، ومؤسسات الدولة الصلبة هي الركائز التي تمنح لبنان استقلاله السياسي وتجنّبه الارتهان للخارج.
أما اليوم، فالسؤال الملحّ هو: لماذا الحياد الآن؟
الجواب بسيط: لأن لبنان لا يمتلك تفوقاً عسكرياً، ولا حماية استراتيجية، ولا غطاءً إقليمياً. الحرب الأخيرة مع إسرائيل كشفت هذا العجز بوضوح، وأثبتت أن منطق السلاح خارج الدولة لا يمنح قوة بل يعمّق الانقسام والفوضى. كما يقول الباحث الجيوسياسي باسكال بونيفاس، إنها «قوة بلا جدوى» حين تغيب الشرعية والدولة.
من هنا، يصبح الحياد فرصة استراتيجية للبنان. فهو يعوّض ضعف القوة العسكرية بقدرة على التأثير عبر الدبلوماسية، والوساطة، والاغتراب، والقوة الناعمة، دون أن يفقد استقلاله السياسي.
يظن البعض أن الحياد فكرة قديمة، لكن تجارب العالم تثبت العكس: سويسرا مثال على الحياد الفاعل، وسلطنة عُمان تلعب دور الوسيط الإقليمي بحكمة. صحيح أن فنلندا والسويد تخلّتا عن حيادهما بالانضمام إلى الناتو، لكن ذلك تم في إطار مؤسسات قوية. أما لبنان، فلا ناتو لديه ولا اتحاد أوروبي… ليس له إلا نفسه.
لذلك، فإن الحياد هو الخيار الواقعي الوحيد لإعادة بناء الإجماع الوطني وتوحيد المجتمع الممزق والحفاظ على الدولة من التفكك. ويكفي النظر إلى ما يجري في سوريا، وخصوصاً في السويداء، لندرك ثمن غياب الدولة وفقدان البوصلة.
لكن الحياد لا يجب أن يبقى شعاراً، بل خطة عمل واضحة، تقوم على:
تحويل لبنان إلى منصة سلام وحوار تستضيف المبادرات والمؤتمرات الدولية.
تعزيز دوره في الوساطات العربية والإقليمية.
تسليط الضوء على إسهامات اللبنانيين في المنظمات الدولية.
الترويج لصورة لبنان كـ بلد الحريات والتعددية.
إطلاق حوار وطني للمصالحة يؤسس لحياد دائم.
تنظيم مؤتمر إقليمي للأمن في الشرق الأوسط بمشاركة الدول العربية.
تعزيز مؤسسات الدولة الشرعية وتحصين الاقتصاد لحماية القرار الدبلوماسي المستقل.
وإدراج مبدأ الحياد ضمن المنهج التربوي الوطني لترسيخ ثقافته لدى الأجيال.
اليوم أكثر من أي وقت مضى، حان زمن الحياد.
إنه ليس انسحاباً من العالم، بل عودة إلى الذات، واستعادة لحقّ لبنان في أن يكون سيد قراره، بعيداً عن حروب الآخرين.