الحياد اللبناني بين الحاجة الوطنية والواقع الجيوسياسي

لم يعرف لبنان الاستقرار السياسي إلا على فترات متقطعة، إذ يبقى ضحية موقعه الجغرافي الحساس وتنوعه المجتمعي المعقّد. فالحيـاة السياسية اللبنانية لطالما خضعت لتأثيرات خارجية، دولية وإقليمية، في ظل هشاشة نظام الحكم المركزي وضعف المؤسسات. هذا الواقع جعل من إدارة التنوع الداخلي مهمة شبه مستحيلة دون تدخل خارجي أو رعاية إقليمية تقوم بدور الوسيط أو الحكم بين المكونات اللبنانية.

من هنا، يبرز مفهوم الحياد كطرح جذري لإخراج لبنان من دوامة المحاور، الحياد ليس انسحابًا من التفاعل مع المحيط، بل هو سياسة تهدف إلى حماية الداخل من النزاعات الخارجية، وتمكين الدولة من أداء دورها دون ضغوط أو تبعية. لكن طرح الحياد يصطدم بجملة من التحديات الواقعية: فهل من الممكن تحقيق حياد فعلي في بلد يحتضن سلاحًا خارج إطار الدولة؟ وهل توافق القوى الداخلية على التخلي عن امتداداتها الإقليمية مقابل مشروع وطني جامع؟ وهل يسمح الخارج أصلاً بقيام دولة محايدة على تقاطع مصالح إقليمية ودولية حادة؟

في العام 1952، انقسم لبنان بين مؤيدين لرئيس الجمهورية آنذاك، الشيخ بشارة الخوري، ومعارضين له. وعلى إثر ذلك، اندلعت ثورة سلمية انتهت باستقالة الخوري وتولي كميل شمعون رئاسة البلاد. بعد ست سنوات، شهد لبنان انقسامًا جديدًا بين مؤيدين ومعارضين لرئيس الجمهورية، لكن هذه المرة تصاعدت الأحداث لتتحول الثورة إلى نزاع مسلح عام 1958. وهنا يطرح سؤال نفسه: إذا كان اللاعبون في كلا الحالتين تقريبًا هم ذاتهم، وكان الخلاف في كلتا المرتين يتمحور حول رغبة الرئيس في تمديد ولايته، لماذا ظلت ثورة 1952 سلمية بينما اندلعت الحرب عام 1958؟ الجواب يكمن في التغير الجذري للمشهد الإقليمي عام 1958 مع تصاعد التوتر الإقليمي واشتداد الاستقطاب الطائفي في لبنان، مما أدى إلى تفجر الحرب. هذا هو تاريخنا مع محطاته الأساسية، ومنه نستخلص العبر.

نحن اليوم في عام 2025، والصراع الإقليمي في ذروته. وكنتيجة مباشرة لهذا الصراع، عاد إلى الواجهة الانقسام الطائفي الحاد، وأزمة الحكم المستمرة. كلّ ذلك يقود إلى نتيجة واضحة: كلما توترت الأوضاع في الإقليم، انتقل هذا التوتر إلى لبنان. ولذلك، من مصلحة لبنان فكّ الارتباط بهذا المحيط قدر الإمكان، كي يتمكن من التركيز على مشاكله الداخلية الكثيرة، والشروع في إعادة هيكلة الدولة على مختلف الصعد.

من هنا، لم تكن فكرة الحياد في لبنان طارئة أو وليدة الظروف الراهنة، بل تعود إلى ما قبل ولادة "لبنان الكبير" نفسه. فجبل لبنان، تاريخيًا، تمتع لفترات طويلة باستقلال ذاتي وحياد فعلي عن صراعات المنطقة، وكأنّ التاريخ يعلّمنا أن الحياد والاستقلال شرطان متكاملان في هذه البقعة من الأرض.

ففي تموز من عام 1920، طالب مجلس إدارة متصرفية جبل لبنان باعتماد حياد لبنان في علاقاته الخارجية، بحيث "لا يُحارب ولا يُحارَب، ويكون بمعزلٍ عن كلِّ تدخُّلٍ حربي". وفي عام 1943، جاءت فكرة "الميثاق الوطني" بين بشارة الخوري ورياض الصلح كمقاربة جديدة للبنان، قائمة على الحياد، تحت شعار: "لا للشرق، ولا للغرب". وفي عام 1961، انضم لبنان إلى حركة دول عدم الانحياز، في موقف سياسي يعكس رغبة واضحة في الابتعاد عن سياسة المحاور. ولعل التعبير الأبرز عن هذا التوجه، كان في اجتماع الرئيس فؤاد شهاب مع الرئيس جمال عبد الناصر، في خيمة على الحدود اللبنانية –السورية.

ففكرة الحياد فرضت نفسها بعد أحداث عام 1958، وأصبحت من أهم المرتكزات التي بُني عليها عهد الرئيس شهاب، وهو العهد الذي شهد مجموعة من الإنجازات الوطنية المهمة على صعيد بناء مؤسسات الدولة. وها نحن اليوم، بعد سنوات من التدمير المنهجي لتلك المؤسسات، في أمسّ الحاجة إلى استعادة تلك المقاربة السيادية القائمة على الحياد، كمدخل أساسي إلى إعادة بناء الدولة وتحصين استقرارها.

نستخلص مما تقدّم أن فكرة الحياد شكّلت، في محطات عدّة، ملاذًا في الأزمات الوطنية. وهي تعود اليوم إلى الواجهة في ظل الأزمة السياسية الحادة التي نعيشها، والتي انعكست على الاقتصاد، فبات لبنان يواجه إحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية، بشهادة البنك الدولي. إن اعتماد لبنان مبدأ الحياد الإيجابي يشكّل مدخلًا لتحوّله إلى دولة مستقلة، بدلًا من أن يبقى ساحة لتصفية الصراعات. فلا وجود لحلّ أمثل خارج إطار التوافق بين اللبنانيين، وهذا هو التحدي الحقيقي اليوم: إذ إن استمرار الحياة السياسية يفترض الاتفاق على عدد من المبادئ والمفاهيم، تُمكّننا من الانتقال من مستنقع الأزمات إلى الدولة التي نستحق أن نعيش فيها.

فالحياد الإيجابي خيار يتطلب إعادة نظر جذرية في السياسة الخارجية، بحيث تكون منفتحة على الجميع، ومسالمة مع الجميع، من دون انحياز. كما يقتضي مقاربة جديدة في السياسة الدفاعية، تقوم على أن يكون لبنان بلدًا مسالمًا، لا يشارك في الصراعات، لا مع أحد ولا ضد أحد، سواء في العالم العربي أو الإسلامي. وبينما يبقى لبنان جزءًا لا يتجزأ من محيطه العربي، يمكنه أن يتحوّل إلى منبر حواري، وجسر حقيقي بين الشرق والغرب.

إن الحياد لم يعد مجرّد خيار، بل أضحى قدرًا محتومًا، إذا أراد اللبنانيون أن يبقى الوطن موحّدًا، بدلًا من أن تتقاسم أشلاءه الدول المجاورة، القريبة منها والبعيدة. يبقى الحياد، في جوهره، مفهومًا لحماية لبنان من التدخلات الخارجية وتداعياتها الداخلية، وهو السبيل الوحيد لوقايته من أزمات الماضي وتحديات الحاضر. فلبنان اليوم في حاجة ماسّة إلى وحدة وطنية حقيقية، وسعي جاد نحو نظام حكم يحترم التعددية، ويصون السيادة، ويستعيد دوره كدولة مستقرة ومزدهرة، وملتقى حضارات يسهم في بناء السلام الإقليمي والدولي.