الدولة العميقة… ليس السلاح وحده!

مواسم الاستيزار في لبنان صارت شحيحة منذ تحولت عمليات تشكيل الحكومات إلى مدد قياسية بفعل الخلط القسري للتمثيل النيابي والحزبي والسياسي بالتمثيل الحكومي، فصارت الحكومات أقرب إلى برلمانات مصغرة.

تعد عملية تشكيل أولى حكومات عهد الرئيس جوزف عون برئاسة الرئيس نواف سلام بكسر تقاليد عدة بدءاً بوقت قصير من ولادتها، لكن الأهم الذي لا يمكن الجزم به مسبقاً هو ما إذا كان الخليط الذي ستخرج به، من اختصاصيين معظمهم محسوب على أحزاب، سيكون على قدر ومستوى صفة طموحة للغاية تتمثل في الإصلاح الجذري الموعود.

لن تكون حكومة نواف سلام التجربة الحكومية الأولى في طغيان عنصر الاختصاص والتكنوقراط ولو أنها مرشحة لتكون الأكثر تركيزاً على معايير الإصلاح، في بلد يعاني من تراكم أسطوري في الانهيارات. ولذا نعاين في لبنان منذ انتخاب رئيس الجمهورية وتكليف رئيس الحكومة إعصار انفعالات غير مسبوقة في "مثاليتها " وتضخيم حجمها إلى حدود تثير الخشية من إعصارات مقابلة من الخيبات في كل مرة لا تأتي فيها الأفعال والسياسات المنتظرة على مستوى السقوف المحلقة من الطموحات.

حصلت أولى عينات هذه الظاهرة في أقل من أسابيع ثلاثة بعد ملء شغور رئاسة الجمهورية حين احتدمت الحملات، وبعضها كان حاداً، ضد الرئيس المكلف ومن ثم راحت تهبط عن رؤوس الشجر وتخف، بما يعكس مناخاً واسعاً من عدم اليقين العام حيال المرحلة الطالعة. ولذا يغدو مبكراً جداً الخوض العملي في ما إذا كان لبنان مقبلاً على ثورة إصلاحية عميقة في المرحلة الانتقالية التي ستطبع ولاية الحكومة الوليدة التي سيكون عمرها محدداً بموعد الانتخابات النيابية المقبلة في ربيع سنة 2026، علماً أن سنة من عمر حكومة مماثلة قد تصح أن تشكل الأرضية الأمثل لإطلاق عملية إصلاحية غير مسبوقة منذ العهود الذهبية الأولى للبنان مثل عهدي فؤاد شهاب وكميل شمعون؛ ذلك أنه على صعوبة الجزم بالقدرات الحقيقية للحكومة الوليدة ولا سيما لجهة حسن توظيف ظروف خارجية تبدو مثالية لمساعدة لبنان في إرساء دولة طال انتظارها، لن تقتصر إقامة هذه الدولة على شرطها الأول والأساسي الذي لا مفر منه بنزع سلاح المجموعات المسلحة خارج إطار الشرعية ولا سيما منها وتحديداً "حزب الله"، بل سيتطلب الأمر ما هو أبعد أيضاً من ذلك. ما يسمى الدولة العميقة في لبنان التي تنسب إليها كل معاصي السلاح والارتباطات الخارجية ناهيك عن تجذر الفساد واتساعه واستعصاء مواجهته، هذه الدولة تستلزم ما يتجاوز مرحلة انتقالية إلى عصر وليس فقط عهد وحكومات متعاقبة. ومن غير المنطقي حصر الدولة العميقة بالسلاح والاستقواء بنفوذ مذهبي أو طائفي معين فقط لأن تراكم الاستقواء والمافيات والفساد هو التحالف الحقيقي الذي لا ينفع إنكار في حجبه أو طمس أي عنصر من مكوناته لتضخيم عنصر محدد فقط.

هذه الحكومة، وهذا العهد، في ظل أدبيات الانطلاقة التي ألزما نفسيهما بها، وضعا اللبنانيين أمام حتمية الغوص إلى الدولة العميقة، كما شاركهما كل داعم وشريك لهما في إشعال هذا الإعصار من الطموحات على خطورة تضخيم الآمال والسوابق التي عرفها اللبنانيون عند مفترقات مفصلية في تاريخ التجارب المماثلة. ولذا سيكون الواقع اللبناني الداخلي من الآن وحتى الاستحقاق المفصلي الأساسي المتمثل في الانتخابات النيابية المقبلة تحت مجهر تجربة قياسية بكل المعايير، بما يفرض "الحكمة" في رمي التوقعات الجاهزة!