الدولة وحزب الله: في انتظار معجزة لن تأتي

كل شيء يتغير من حولنا، الحدود تحترق، الداخل ينهار، العالم يعيد رسم خرائطه، ونحن هنا، عالقون في دوامة لا نهاية لها، نؤجل المواجهة، نخاف من الأسئلة الكبرى، نؤمن بأن الوقت وحده كفيل بصنع الحلول. لكن الحقيقة القاسية هي أن الوقت لا يفعل سوى تكريس الواقع. حتى اليوم، لا توجد مفاوضات استراتيجية حقيقية بين الدولة اللبنانية وحزب الله بشأن مستقبله العسكري والسياسي. وبينما يتعامل البعض مع الحزب كأمر واقع، تكتفي الدولة بإدارة الأزمة بدلًا من معالجتها.

منذ سنوات، تُدار العلاقة بين الدولة وحزب الله بمنطق المساكنة القسرية. لا مواجهة، لا حلول، لا تفاوض، فقط توازن هش ينهار عند كل عاصفة إقليمية. اليوم، لم يعد هذا التوازن الهش خيارًا، بل أصبح وهمًا خطيرًا يهدد بانفجار داخلي أكبر مما يقدر عليه لبنان. التجارب الدولية تُظهر أن الدول التي نجحت في التعامل مع الجماعات المسلحة لم تحقق ذلك عبر الانتظار السلبي، بل من خلال مبادرات سياسية وأمنية واضحة، دفعت هذه الجماعات إلى التحول من العمل المسلح إلى العمل السياسي. الدولة اللبنانية لا يمكنها الاستمرار في انتظار تغييرات إقليمية أو انتخابية داخلية، بل يجب أن تتبادر نحو مفاوضات مباشرة مع حزب الله لدفعه إلى التخلي عن أجندته العسكرية، وفق شروط داخلية تساهم في مواكبة الضغوط الخارجية التي لم يعد يمكن لا لحزب الله أن يتجاهلها ولا للدولة أن تخضع لها من دون إطار حوار داخلي.

حين اختارت الدول المواجهة بدل الانتظار
في إسبانيا، لم تنهار منظمة إيتا (ETA) تلقائيًا، بل جاء تفكيكها نتيجة مزيج من الضغط الأمني والسياسي والتفاوض التدريجي، الذي وضع نهاية لأحد أطول النزاعات المسلحة في أوروبا. الدولة الإسبانية لم تكتفِ بالإجراءات العسكرية، بل قدمت حلولًا سياسية واقتصادية أدت إلى نزع فتيل الصراع.

في إيرلندا الشمالية، لم تتغير موازين القوى من تلقاء نفسها، بل فتحت الحكومة البريطانية باب التفاوض مع الجيش الجمهوري الإيرلندي (IRA)، ووقّعت معه اتفاق "الجمعة العظيمة"، الذي أدى إلى تحوله من فصيل مسلح إلى حزب سياسي. لم يكن الأمر سهلًا، لكنه كان ضروريًا.
في كولومبيا، لم تتراجع الحكومة أمام القوات المسلحة الثورية الكولومبية (FARC) ولم تنتظر سنوات إضافية، بل فتحت قنوات تفاوض مباشرة، أدت إلى اتفاق تاريخي عام 2016، تحولت بموجبه "فارك" إلى قوة سياسية، مقابل نزع السلاح وضمانات واضحة.

في العراق، فشلت الدولة في إدماج الحشد الشعبي بشكل كامل، فبقيت السلطة مزدوجة، والقوة بيد ميليشيات منفصلة عن القرار الرسمي، ما أدى إلى دولة ضعيفة مرتهنة لصراعاتها الداخلية. هذا ما يجب على لبنان تجنّبه بأي ثمن.

لا أحد سيأخذ القرار نيابة عن الدولة 
يحتاج لبنان إلى قرار جريء يضع الأسس لحوار داخلي استراتيجي مع حزب الله، ليس من موقع الخضوع، بل من موقع الدولة التي تعرف أن الحلول لا تصنعها الصدف.

كما أثبتت تجارب دولية سابقة، يجب أن يكون الحل شاملًا، قائمًا على مزيج متكامل من الحوار السياسي، التعزيز الأمني، والبدائل الاقتصادية. فكما لم يكن الانتشار العسكري وحده كافيًا في إيرلندا الشمالية لإنهاء العنف الذي مارسه الجيش الجمهوري الإيرلندي (IRA)، لم يكن كافيًا أيضًا في كولومبيا لإضعاف القوات المسلحة الثورية الكولومبية (FARC). في كلا الحالتين، كان الحل الحقيقي يكمن في الجمع بين تعزيز قدرات الدولة الأمنية وبين تقديم مسار سياسي واقتصادي بديل، يتيح للجماعات المسلحة التحول إلى العمل المدني.
لذا، إن التعزيز الأمني في لبنان، حتى لو تم عبر انتشار أوسع للجيش، لن يكون كافيًا لتفكيك شامل لبنية حزب الله الأمنية، ما لم يرافقه حوار سياسي وخطة اقتصادية واضحة. فمن دون ذلك، سيجد الجيش نفسه تحت ضغوط تفوق قدرته على مواجهتها، سواء داخليًا بسبب التحديات الأمنية والسياسية، أو إقليميًا نتيجة التوترات المتصاعدة في المنطقة.